في السنوات العشر الأخيرة، تصاعدت ظاهرة العنف المجتمعي في أوساطنا العربيّة داخل إسرائيل بشكلٍ مخيف، حتى باتت حوادث القتل والتوترات بين العائلات والعشائر خبرًا يوميًا لا يُفاجئ أحدًا.
وفي المقابل، شهدنا ولادة وانتشار عشرات "لجان الصلح"، والمراكز المجتمعية التي ترفع شعار التهدئة وردع العنف، ومداواة الجراح النازفة.
لكن، يطفو على السطح سؤال مشروع: هل تُجدي هذه اللجان فعلًا؟ أم أنَّها مجرّد غطاء إعلامي لواقع هشّ، ومشهد دموي لا تَملك له دواء؟
مبادرات نبيلة... بقدرات محدودة..
نُقِرّ بدايةً أن كثيرًا من لجان الصلح تأسّست بنوايا طيبة، وجهود صادقة من أبناء مجتمع يحمل همّ أهله ويحاول لملمة الجراح.
ويُسجَّل للبعض نجاحه في تهدئة صراعات هنا وهناك، عبر الوساطة والحكمة وإعادة العقل إلى مسرح الغضب.
لكن هذه المبادرات – رغم أهميتها – تبقى محدودة التأثير حين تُترَك وحدها في مواجهة ماكينة عنف مركّبة، تتغذى على تفكك اجتماعي، وعجز مؤسسي، وفوضى السلاح.
العنف لم يعُد "فشّة خلق"... بل منظومة إجرامية..
واقع الحال يؤكّد أن ما نواجهه اليوم ليس مجرّد نزاعات محلية، بل امتداد لعالم إجرامي منظّم، تهيمن عليه عصابات تحمل السلاح، وتدير الاقتصاد الأسود، وتفرض الخاوات، بل وتخترق البلديات والهيئات الرسمية.
فهل يُعقَل أن نواجه هذه البُنية الإجرامية بجاهة عشائرية أو لجنة محلية؟
كيف نحمّل مسؤولية "ردع القتل" لأشخاص لا يملكون سلطة ولا حماية؟
وماذا تفعل اللجان أمام عصابات ترى الدم وسيلة سلطة ومال؟
غياب الدولة... واستقالة الردع..
في المشهد الإسرائيلي، تغيب الدولة حين يتعلّق الأمر بالجريمة داخل البلدات العربية.
الشرطة تُبطئ تحقيقاتها، والنيابة تُهمل الأدلة، والمحاكم تُفرج عن مجرمين معروفين، ليعودوا يفرضون منطق السلاح.
وحين يغيب الردع الرسمي، يُترك الناس في مهبّ الفوضى.
فيُدفع الوجهاء والمُصلحون إلى الساحة كبدائل عاجزة، ثم يُسأل المجتمع: "لماذا تفشلون في ضبط أنفسكم؟!"
إنها وصفة للتفكك، لا للعلاج.
الانتقائية... وسوء الاختيار..
من أخطر ما يُضعف فاعلية لجان الصلح هو اختيار أعضائها بطريقة عشوائية أو حزبية، لا علاقة لها بالكفاءة أو المكانة المجتمعية.
يُختار البعض لمجرد انتمائه السياسي أو العشائري، لا لأنه يملك وزنًا أخلاقيًا أو وعيًا مجتمعيًا.
فكيف نُعطي مهمة "نزع فتيل الفتنة" لشخص لا يثق به أحد، أو لا يُجيد سوى لغة التملّق والخطابة؟
وهل ينجح في إطفاء الحريق من لا يعرف كيف يبدأ الماء؟
هذه الانتقائية المريضة تُحوّل لجان الصلح أحيانًا إلى أدوات لتصفية الحسابات، لا إلى مساحات لحماية السلم الأهلي.
المال مقابل المصالحة؟ سقوط أخلاقي..
ما زاد الطين بلّة، هو دخول البُعد المادي إلى منظومة المصالحات.
حين يتحوّل "إصلاح ذات البين" إلى مصدر دخل، وتُربط الوساطة بأجر، تسقط صفة العمل التطوعي، وتهتزّ ثقة الناس بنوايا اللجان.
ليس خطأ أن يُعطى للمُصلح احترامه وتقديره – ولو زمنًا ووقتًا – لكن حين تصبح كل مبادرة مرتبطة بسعرٍ أو تعويض مالي، تُصبح المصالحة تجارة لا رسالة.
والمجتمع لا يثق بلجنة يُحسب فيها كل لقاء وكل كلمة بعدد أوراق نقديّة.
فالدم لا يُغسَل بأموال... بل بالحكمة والعدل.
الواجهة الإعلامية... لا تكفي..
ترتدي بعض هذه اللجان ثوب البطولة أمام الكاميرات،فينشر الإعلام صورة المصافحة و"البيان"، وكأن العالم عاد إلى السلام.
لكن ما يحدث في الكواليس أحيانًا عكس ذلك تمامًا، فالمُشكلة لم تُحل، بل جُمِّدت حتى إشعار آخر، أو قُدّمت "تهدئة مشروطة"، لا مصالحة حقيقية.
وهكذا، تتحوّل "الصلح" إلى بروتوكول، لا فعل مجتمعي راسخ.
خلاصة لا بد منها..
نحن لا نُقلّل من قيمة لجان الصلح، بل نطالب بتقويمها وتنقيتها وتقويتها.
فالعمل الأهلي الحقيقي يجب أن يبقى نقيًّا من الانتهازية، بعيدًا عن التربّح والتسييس، قائمًا على الكفاءة لا القرابة.
لكن الأهم من ذلك:
لا عدالة بلا دولة فاعلة، ولا أمن بلا مؤسسات تحمي المواطن وتحاسب القاتل.
وحدها الإرادة السياسية، والإصلاح البنيوي، ومحاربة الفساد والسلاح – هي من تعيد الأمل للمجتمع، وتُنقذ من تبقّى من الأبرياء.
نحن بحاجة إلى:
• لجان صُلح نزيهة، مستقلّة، ذات كفاءة.
• دعم مجتمعي صادق غير مشروط.
• استعادة ثقة الناس بالعدالة.
• دولة تحمي... لا تتفرّج.
اللهم اني قد حللت وأستنتجت وأن كنت تلى خطأ فصححوني..؟؟!