تعيين لجنة لإدارة بلدية الناصرة، قد يبدو لاول وهلة وكأنه قراراً إداريًا بحتًا، هدفه ضمان استمرارية تقديم الخدمات. لكن ما يبدو إجراءً تقنيًا يخفي خلفه دلالات سياسية عميقة، أهمها: نزع الثقة من المجتمع العربي وقدرته على إدارة شؤونه الذاتية. أصبحت الوصاية الحكومية نموذجاً معتمداً يواجه السلطات المحلية العربية المتعثرة.
هذا النهج لا يمكن عزله عن سياق أوسع يتكرر في عدد من البلدات العربية. الدولة، بدلًا من أن تتساءل عن مسؤوليتها في توفير الأدوات والموارد للنجاح، تلجأ إلى سحب الصلاحيات، وكأن المشكلة تكمن فقط في فشل الإدارة المحلية، لا في البيئة السياسية والاقتصادية والأمنية التي حُشرت فيها.
الناصرة، كبرى المدن العربية في الداخل، لا تمر بأزمة تقنية، بل بأزمة ثقة وهيكلية. إنها لا تحتاج إلى لجنة مؤقتة، بل إلى استثمار طويل الأمد من قبل الدولة، وفي تخطيط حضري يعكس تطلعات السكان، وفي تمويل عادل لا يخضع للاعتبارات السياسية أو البيروقراطية. والأهم ضمان الامن والأمان في المدينة الذي انعدم في السنوات الأخيرة، حيث اصبحت الانتخابات البلدية رهينة بايدي جهات غير المواطنين العاديين.
أحد العوامل الجوهرية التي لا يمكن إغفالها في تقييم أداء بلدية الناصرة هو غياب الدولة عن ساحة المواجهة مع الجريمة المنظمة. فقد أظهر جهاز الشرطة، على مدار سنوات، تقاعسًا ممنهجًا في التصدي لشبكات الإجرام التي استغلت الفراغ الأمني لتوسيع نفوذها. هذا التراجع في دور الشرطة لم يخلق فقط مناخًا من انعدام الأمان، بل أثر بشكل مباشر على فاعلية البلدية، التي وجدت نفسها تُساءَل على ظواهر خارجة عن نطاق صلاحياتها.
في هذا السياق، أصبحت السلطة المحلية رهينةً للبيئة الأمنية المتدهورة: عاجزة عن القيام بواجباتها البلدية لخدمة المواطن، ومقيدة في تحركاتها التنموية، ومعرّضة للابتزاز الاجتماعي والسياسي. فالمواطن الذي يعيش في ظل تهديد السلاح والخاوة وسفك الدماء لا ينظر إلى البلدية كمصدر حلول، بل كطرف عاجز أو متواطئ، وهو ما أدى إلى تآكل الثقة بالمؤسسة المحلية، وأتاح للدولة أن تسوّق فشلها في إنفاذ القانون كتبرير إضافي لتجميد الصلاحيات الإدارية.
من هنا، فإن تحميل البلدية مسؤولية التردّي دون مساءلة المنظومة الأمنية والشرطية هو قراءة مجتزأة للواقع، تتجاهل أن تقاعس الدولة في حماية مواطنيها كان الشرارة الأولى التي زعزعت استقرار الحكم المحلي وفتحت الباب لتآكله.
مرارًا وتكرارا عوملت البلدات العربية كمشكلة يجب السيطرة عليها، لا كجزء أصيل من النسيج المدني والسياسي للدولة. القرارات الفوقية للدولة بدلت المراجعة الجذرية للسياسات البنيوية التي كرّست التهميش وسلبت آليات التأثير.
إن ما يحدث في الناصرة اليوم ليس شأنًا محليًا فحسب، بل اختبارًا لطبيعة العلاقة بين الدولة ومواطنيها العرب. فإما أن يكون هذا الحدث بداية لتحوّل في فلسفة الحُكم تجاه البلدات العربية، أو تكريسًا لنهج يوسّع الفجوة، ويُعمّق الإحباط، ويضعف الشعور بالمواطنة.
الناصرة لا تطلب أكثر من حقها الطبيعي: أن تُعامل باحترام، وأن تُمنح المساحة لتقود مصيرها بنفسها، كبلدة لها كرامتها، لا كمؤسسة حكومية مُدارة تهدف إلى فرض هيمنة الدولة لا غير.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com