آخر الأخبار

في ظلّ الحرب الشرسة والعنصرية المتجذرة

شارك

- المحامي علي أحمد حيدر

في خضمّ التصعيد العسكري الأخير في المنطقة، بدءًا من الضربة الإسرائيلية لإيران، مرورًا بالردود الإيرانية، وصولًا إلى التدخل الأميركي الذي أعقبه قصف مكثّف على منشآت نووية، لم يكن المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل بمنأى عن التأثيرات المباشرة لهذه الحرب. بل وجد نفسه وسط عاصفة مركّبة من التهديدات الأمنية، والتمييز العنصري الشعبي والمؤسساتي، وفي حالة اجتماعية حساسة ومعقّدة. ورغم استمرار حرب الإبادة على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، فإن الأيام العشرة الأخيرة حملت معها ملامح نوعية لتأثيرات جديدة تستحق التوقّف، التأمل والتحليل.

برز موقف الأحزاب العربية كأول تعبير جماعي عن رفض الحرب، إذ أصدرت أغلب الأحزاب بيانات معارضة واستنكار واضحة. هذا الرفض لا يعني تأييدًا لإيران ومشاريعها، بل ينطلق من مبدأ احترام سيادة الدول ورفض الاستعمار والاستقواء والاستعلاء. كما أنه انحياز معهود إلى المواثيق والقوانين الدولية، وحلّ الصراعات بشكل سلمي، والدفاع عن الأبرياء، وهي ثوابت طالما شكّلت جوهر الخطاب السياسي العربي في الداخل.

طبّق المجتمع العربي، كما غيره من المواطنين، تعليمات الجبهة الداخلية، لكن التفاوت في البنية التحتية كان مكشوفًا وفاضحًا: الكثير من البيوت بلا ملاجئ، والغالبية من البلدات العربية تفتقر إلى الملاجئ العامة أو المناسبة (مقارنة بالمجتمع اليهودي)، وأحيانًا لا يُسمع دوي صفارات الإنذار أو لا يتلقى الناس تحذيرًا مسبقًا يُنذر بإطلاق رشقات صاروخية، ويُضطر الناس للهروب سيرًا على الأقدام أو بالسيارات في ساعات الليل المتأخرة (أطفالًا، شيوخًا، رجالًا ونساءً) بحثًا عن مأوى، ما جعل الليل نهارًا.

وكانت الحصيلة ثقيلة: أربع نساء من طمرة قُتلن نتيجة القصف وسقوط صاروخ على منزلهن، ومقتل رجل من جنين في حيفا أثناء عمله، والعديد من المصابين، والكثير من البيوت التي دُمّرت أو تضرّرت.

إلى جانب القصف، واجه المجتمع العربي موجة من العنصرية المكشوفة: فيديوهات تُظهر احتفال شبّان يهود بسقوط الصواريخ على طمرة، وهم يغنّون ويهتفون "تحترق قريتكم"، وتصريحات صحفيين يمينيين تتشفّى بالموت العربي، مثل تصريحات الصحافي يجئال يانون بأن سكان طمرة "ضد الدولة"، وكأن موتهم مباح. لم تُفتح تحقيقات، ولم يُعتقل المحرّضون، بل بالعكس، شُدّدت الرقابة على الناشطين العرب، واعتُقل عدد منهم بتهم فضفاضة تتعلق بـ"التحريض". ولم يكتفِ وزير الأمن القومي بعدم شجبه واستنكاره لمثل هذه الممارسات، بل سوّلت له نفسه تعزيز الرقابة وتهديد كل من يشاهد بث قناة "الجزيرة" الإخبارية.

ظهرت شكاوى من مواطنين عرب تمّ منعهم من دخول ملاجئ، سواء شخصية أو عامة، فقط لأنهم عرب. هذا التمييز لم يكن مجرد ممارسة اجتماعية عابرة، بل خرقًا مباشرًا للقانون، ويعبّر عن ثقافة عنصرية متجذّرة، وكراهية متفشية، وفقدان للمشاعر الإنسانية الأساسية، والتي لم تُواجَه، للأسف، من قبل السلطات بردّ فعل حازم.

في ظل هشاشة البنية الاقتصادية، وعدم انتظام العمل، وتفاقم الغلاء، عانى المجتمع العربي من ضغوط اقتصادية خانقة. أمّا نفسيًا، فقد عاش آلاف الأطفال والشباب تجربة الحرب لأول مرة، دون دعم مؤسساتي أو برامج احتواء، ما خلق بيئة خصبة للتوتر الأسري، والقلق المجتمعي، والخوف، وعدم اليقين، وفقدان الأمل.

يعمل الكثير من العرب في الخطوط الأمامية والمرافق الحيوية: على سبيل المثال في المستشفيات، ومصانع الغذاء، ووسائل النقل والمواصلات، والبناء. ومع ذلك، لم تتوفّر للكثير منهم ملاجئ مناسبة أثناء تنقّلهم، أو أثناء وجودهم في عملهم، ما زاد من احتمال تعرّضهم للخطر، وسط تجاهل مؤسساتي ملحوظ.

يبقى المجتمع العربي في النقب الأكثر هشاشة، حيث يعيش عشرات الآلاف في قرى غير معترف بها، بلا خدمات أساسية كالماء والكهرباء والمدارس والطرقات، فكيف يمكن الحديث عن ملاجئ؟ بعضهم لجأ إلى الاحتماء تحت الجسور، في مشهد يلخّص القهر المزمن والتهميش المتجذّر.

وفي الوقت الذي علق فيه كثير من المواطنين خارج البلاد بسبب الحرب، فضّلت الدولة تسريع عودة من يُحتمل أن يُستدعى للخدمة العسكرية أو من ذوي الإمكانيات المادية والعلاقات الشخصية، على حساب المواطنين العاديين، ومن بينهم العرب العالقون في المطارات.

لقد لعبت العديد من مؤسسات المجتمع المدني والأهلي والجمعيات والهيئات المنبثقة عن المؤسسات التمثيلية دورًا مركزيًا، وتحملت مسؤولية محمودة، حيث بادرت إلى فعاليات ونشاطات في مجالات متعددة كالتوعية العامة بالحقوق في حالات الطوارئ، وحقوق العمال، وحقوق الصحافيين الذين تم احتجازهم والتحقيق معهم (في ظل الرقابة العسكرية المشددة وتقييد حرية الصحافة والإعلام)، وفعاليات للأطفال، ودعم الحصانة النفسية، والتعريف بحقوق أصحاب المصالحوالأشغال الخاصة وخصوصاً الصغرى والمتوسطة، وملاءمة تعليمات الجبهة الداخلية لظروف المجتمع العربي، ومساعدة وتوجيه الذين تضررت ممتلكاتهم وأعمالهم، وتحيين ومساعدة الهيئات التدريسية والطلاب في المدارس ومؤسسات التعليم العالي.

ورغم التصعيد والحرب الضروس، لمتكف عصابات الإجرام والعنف الجنائي عن عمليات القتل وإطلاق النار داخل المجتمع العربي، دون أن تتحمل الشرطة والحكومة مسؤوليتها في وضع حد لهذه الظاهرة الخطيرة والمزمنة.

من المبكر رصد وتحليل مجمل تأثيرات الحرب الراهنة على المجتمع الفلسطيني في الداخل واستنباط توجهات في العمق لكون الأحداث ما زالت مستمرة ومفتوح ومع ذلك فإنها تكشف، مجددًا، عن البنية العميقة للتمييز والعنصرية في المجتمع والحكومة الإسرائيليين اتجاه المجتمع العربي. فالمجتمع العربي لا يتعرض للخطر الأمني كغيره من المواطنين فقط، بل عليه أن يواجه، فوق ذلك، عنصرية بنيوية، واستهتارًا رسميًا بحياته وحقوقه. من هذا المنطلق، على المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل العمل ضمن استراتيجيات متعددة ومتكاملة، وفي جميع المستويات والمجالات، من بينها المداومة على انتزاع الحقوق من جانب، وبناء وتعزيز المؤسسات الجماعية من جانب آخر من أجل التعاطي بجدية ومسؤولية مع تحديات المرحلة الراهنة والتأسيس لآفاق مستقبلية

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا