آخر الأخبار

القدس تئن تحت الإسمنت: صراع السكن يكشف وجوهًا غير بريئة

شارك

في أزقة القدس الشرقية، ليس من الغريب أن ترى بيتًا قد تمدّد بجرأة على حساب الرصيف، أو شرفة وُلِدت فجأة فوق فراغ عام، أو سلّمًا غريبًا يشق طريقه حيث كانت تمرّ السيارات. لكن الغريب فعلًا هو أن يتحوّل هذا المشهد إلى أمر معتاد، وأن يُروى على صفحات الفيسبوك كما تُروى النكات — مرة بسخط، وأخرى بتهكّم، وكثيرًا ما بصمت يشبه الاستسلام.

في الأسابيع الأخيرة، بدا أن شيئًا ما يُبنى في الخفاء، ليس من طين ولا حجر، بل من جشع وسذاجة. شكاوى متتالية بدأت تتدفق من سكان كفر عقب، رأس خيط انطلق من منشور صغير: جارٌ قرر أن يوسّع بيته، فهدم جزءًا من الشارع العام، ورفع الجدران كما لو أن المدينة ملك خاص له وحده. والناس؟ علقوا وتذمروا، وتناقلوا الصور، ثم عادوا إلى صمتهم المعتاد، وكأن الحيّ فقد مناعته.

لكن خلف هذا السلوك ما هو أكثر خطورة من مجرد خرق لقانون البناء. إنها نسخة محدثة من النصب، لا تأتيك هذه المرة في شكل مكالمة هاتفية من رقم غريب، ولا عبر بائع يعدك بربح سريع، بل تأتيك من جار، أو قريب، أو صاحب مشروع صغير، يقنعك بأن القانون مرن، وأن "الكل بيعمل هيك"، وأن المال الذي تدفعه لبناء طابق إضافي دون تصريح هو مجرد مشاركة في "عُرف مقدسي" غير مكتوب.

تجربة المواطن سامر (اسم مستعار) تُجسّد مرارة هذا الواقع. دفع مبلغًا كبيرًا — مدخرات سنوات في الغربة — مقابل ما قيل إنها "رخصة بناء معتمدة" على أرض في شعفاط. حين عاد ليباشر البناء، تفاجأ بأن الرخصة نفسها بيعت لشخص آخر، وأن الأرض أصبحت موضوع نزاع قضائي معقّد. القضية ما زالت في أروقة المحاكم، وسامر لا يملك بيتًا، ولا مالًا، ولا حتى إجابة واضحة من الوسطاء الذين تورّط معهم. يقول بمرارة: "دفعت ثمن قانون لم يُحمِني، ودفعت ثمن ثقة وضعتها في كلام شفوي ما إله أي قيمة".

في مكان آخر، تعيش أم رائد مع أسرتها في شقة صغيرة مؤجّرة في بيت حنينا. الإيجار يستهلك أكثر من نصف دخل الأسرة، وطلبات المالك لا تنتهي. تبرّر انتشار البناء غير المرخّص من زاوية مختلفة: "الناس زهقت، مش قادرة تتحمل. بقولوا خليني أبني وأدفع مخالفة، أهون من أدفع ٣٠٠٠ شيكل إيجار بالشهر وما أملك المفتاح". لكن حتى هذا التبرير البسيط يفتح الباب لفوضى معمارية وأخلاقية لا أحد يسيطر عليها لاحقًا.

باسم أزمة السكن، تُرتكب تجاوزات لا تُحصى. وباسم الاحتلال، يُغسل كل خطأ على أنه مقاومة ضمنية. لكن الحقيقة القاسية أن هذه التجاوزات تخدم في النهاية نخبة صغيرة تعرف من أين تؤكل الكتف، وتعرف كيف تستغل ضعف النظام وغموض الإجراءات وقلق الفلسطينيين المزمن من الغد.

نحن لا نواجه فقط مخالفات بناء، بل نواجه عمليات احتيال مموّهة بلغة التعاطف الوطني.

ربما آن الأوان لأن نتعامل مع هذه الظاهرة كما يجب: بوعي قانوني، ويقظة مدنية، ورفض لأن نكون بيئة خصبة للمحتالين — سواء أكانوا أصحاب طموحات إسمنتية، أم أصحاب نوايا تجارية مشبوهة. القدس، بكل هشاشتها، لا تحتمل أكثر من هذا. ومجتمعها الفلسطيني لا يملك رفاهية خسارة المزيد — لا في الشوارع، ولا في الثقة.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا