آخر الأخبار

الأقلية بين ميزان الشريعة ومشاريع التفكيك

شارك

"الأقلية" بين ميزان الشريعة ومشاريع التفكيك
بقلم: الأستاذ عبد الكريم عزام
في عالمٍ تصنعه السياسة أكثر مما تصوغه المبادئ، لا يمكن التعامل مع المصطلحات باعتبارها بريئة أو محايدة. ومفهوم “الأقلية”، كما يُطرَح اليوم، ليس مجرد وصف عددي بريء، بل هو في جوهره أداة ضغط، وغطاء تدخّل، ومنصة لتفكيك المجتمعات تحت لافتة “الحقوق” و” الحماية”. وحين يُستخدم هذا المفهوم خارج سياقه، يتحول من لغة إنصاف إلى سلاح ناعم يُغلف مشاريع السيطرة والتقسيم.
مصطلح “الأقلية” نشأ في سياق الدولة القومية الحديثة في أوروبا، حيث بُنيت السلطة على فكرة تمثيل “الأغلبية” وحماية “الأقليات”. لكنه سرعان ما خرج من هذه الدائرة إلى نطاق الهيمنة الدولية. فحين دخلت القوى الاستعمارية الغربية إلى المشرق، لم تكن تنوي حماية أحد، بل استخدمت الأقليات كأدوات موازنة وتفتيت، تمنحها امتيازات لا حبًا بها، بل لأنها تضمن بها اختراق جسد الأمة من داخله، وتضمن استمرار السيطرة تحت غطاء “التعددية” و”الديمقراطية”.
من لبنان إلى العراق، ومن السودان إلى سوريا، سيتبين أن كل مشروع تقسيم بدأ من نافذة الأقليات: إما بالتحريض باسم المظلومية، أو بالتوظيف السياسي لهذه الجماعات، أو بزرع الشك بينها وبين محيطها. لم يكن المقصود إنصافها، بل تحويلها إلى مشروع خاص، ثم إلى صوت معارض دائم، ثم في النهاية إلى ذريعة للتدخل، سواء كان ذلك باسم الحماية أو باسم إعادة بناء الدولة.
وإذا نظرنا إلى الشريعة الإسلامية، نجد أنها لم تعرف هذا التصنيف العددي أصلاً. فالإسلام لا يقسم المجتمع إلى “أغلبية حاكمة” وأقلية محكومة، بل يبني علاقات المجتمع على أسس ثابتة: الذمة، العهد، الأمان، والعدل.
فغير المسلم في المجتمع الإسلامي لم يكن “أقلية تطالب”، بل كان جزءًا من نسيج الأمة، له حقوقه بموجب العهد، وله حرمته وكرامته، لا يُؤذى في دينه، ولا يُهان في شعيرته.
وقد بلغ الأمر في تعظيم العهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة”. فهل في هذا المعنى مكان لمفهوم “الأقلية” كما يُروج له اليوم؟
في الرؤية الإسلامية، ليس الإنسان من يُحدد قيمته بعدده أو موقعه من الأغلبية، بل بمكانته في العهد الإنساني العام الذي أقامته الشريعة. الحقوق محفوظة لا لأنها صادرة من تصويت أو دستور وضعي، بل لأنها واجبة بميزان الشرع. ولذلك فإن فكرة “الأقلية” تُقزِّم الإنسان وتُصنّفه على أساس ضعفه، بينما الشريعة تدمجه في الجماعة وتحفظ له مكانته على أساس كرامته وعهده، لا على أساس نسبته العددية.
الخطر الأكبر لا يكمن في استخدام الغرب لهذا المفهوم فقط، بل في أن تقبل الأقليات نفسها بهذا الدور. أن تنظر إلى نفسها كجسم غريب، منفصل عن محيطه، وتُبني خطابها على “نحن” في مقابل “هم”. وهنا يبدأ الانفصال النفسي، ثم السياسي، ثم الثقافي. وفي لحظة ما، تتحول من جماعة تسكن مع الأمة، إلى ورقة ضغط تسكن في يد خصوم الأمة. وهذا بالضبط ما تريده القوى المتدخّلة: أن تُقنِع هذه الجماعات بأنها مضطهدة دائمًا، تحتاج إلى الخارج دائمًا، ولا أمان لها إلا بوصايةٍ أو حماية دولية.
هذه اللعبة الخبيثة لا تجرّ الويلات على المكوّن الأقل عددًا فحسب، بل تفجّر المجتمعات من داخلها، وتُدخل الجميع في صراعات لا غالب فيها ولا مغلوب، بل ضحايا متناثرين وجغرافيا مُمزقة، ومشاريع وطنية ميتة. ومتى ما دخلت “الأقلية” في مشروع خارجي، فإنها تفقد احترامها داخل مجتمعها، وتخسر صدقيتها الأخلاقية، وتتحول من مظلومة إلى مُوظفة، ومن شريكة إلى أداة.
التنوع في الأمة الإسلامية كان دائمًا موجودًا: دينيًا، عرقيًا، لغويًا، لكنه لم يكن مصدر تهديد. لأن وحدة الأمة كانت أقوى من هذه الفوارق، ولأن النظام الإسلامي كان يحفظ للجميع موقعهم بالعدل، لا بالمحاصصة. لكن حين فُرض مفهوم الأقلية كمشروع سياسي، تغيّر كل شيء. فبدل أن يكون التنوع ثراء، أصبح تهديدًا؛ وبدل أن يكون العيش المشترك عقدًا، صار تفاوضًا؛ وبدل أن يكون الوطن بيتًا واحدًا، صار شققًا مفروزة بحسب المذهب والهوية.
لهذا، فإن تحرير الوعي من هذا المفهوم، وتفكيك أبعاده، ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة مصيرية. يجب أن تعي الأقليات، قبل غيرها، أن الدخول في لعبة “نحن أقلية مضطهدة” هو أول خطوة نحو أن تكون مجرد رقم في دفتر صفقات الخارج. إن من يريد حقوقه، يجب أن يطلبها من داخل المجتمع لا من خارجه، ويثبت انتماءه لا يراهن على عزله، ويكون جزءًا من بناء الأمة لا مطية لتفكيكها.

وازكام المصدر: وازكام
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا