ذكر الله تبارك وتعالى في ختام سورة البقرة أصناف الناس في باب الأموال، فجعلهم ثلاثة؛ محسن وظالم وعادل، فتعال بنا أخي القارئ نتعرف على هذه الأصناف، ثم نعرض أنفسنا عليها؛ لنرى أين موقعنا منها.
- الصنف الأول؛ "المحسن": وهو المتصدق، لأنه يعطي لله تعالى ولا ينتظر من الناس جميلا ولا عوضا ولا مكافئة. وفي هؤلاء يقول الله سبحانه: (مَّثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَالَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنۢبُلَةࣲ مِّا۟ئَةُ حَبَّةࣲۗ وَٱللَّهُ یُضَـٰعِفُ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ) [البَقَرَةِ: ٢٦١]، ويستمر البيان القرآني في الحديث عنهم، محفزا ومشجعا ومرشدا وموجّها، في ثلاث صفحات متواليات من الآيات الربانية والذكر الحكيم، إلى قوله جل شأنه: (ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَالَهُم بِٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرࣰّا وَعَلَانِیَةࣰ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ) [البَقَرَةِ: ٢٧٤].
هؤلاء عَقلوا أمرَ المال وفهموا قضيّته، وأنهم مؤتمنون عليه، مستخلَفون فيه، ممتَحنون به؛ فجعلوه وسيلة لمرضاته، وسُلّمًا لجنّاته سبحانه، قال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَ) [التوبة: 111]، قال الحسن البصري رحمه الله: اشترى منهم أنفُسًا هو الذي خلقها، واقترض منهم أموالا هو الذي رزقها.
هؤلاء وضعوا الدنيا في نصابها الصحيح، وعلموا أنها فانية زائلة، وأنّ ما يُنفَق عليها مستهلَكٌ ذاهبٌ هدرًا، وأنّ الادّخار الحقيقي لا يكون في البيت ولا في المصرف ولا في البورصة؛ ولكنه عند الله تعالى، قال سبحانه: (مَا عِندَكُمۡ یَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقࣲ) [النَّحۡلِ: ٩٦]، وفي جامع الترمذي من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي ﷺ: "ما بقي منها؟"، قالت: قلتُ: ما بقي منها إلا كتفها. فقال: "بقيَ كلُّها غيرَ كتفِها". وفي هذا المعنى قال أحدهم: لو أن رجلا أراد أن ينتقل من دار إلى دار، هل كان يُبقي في الأولى شيئا! يقصد الدار الدنيا والدار الآخرة. فهذا هو الصنف الأول؛ "المحسن".
ثم ينتقل البيان القرآني إلى الصنف الثاني؛ وهو "الظالم"، فيقول تعالى: (ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا یَقُومُونَ إِلَّا كَمَا یَقُومُ ٱلَّذِی یَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّ) [البَقَرَةِ: ٢٧٥].
نعم، إنهم أكلة الربا، وهؤلاء على النقيض من المحسنين، فالمتصدقون المحسنون يعطون ولا ينتظرون عوضا، وهؤلاء لا يعطون إلا بشرط العوض؛ يأتي إليهم المهموم المكروب رجاءَ أن يجدَ عندهم تخفيفا ورحمة، فيضعون عليه حِملا فوق حِمله، وهمّا فوق همّه، يستغلون فقره وحاجته لزيادة غلاتهم وملء أرصدتهم. ولا يخفى على ذي عينين أنّ هؤلاء قد استفحل أمرهم في زماننا، وراج سوقهم في مجتمعنا، أولئك الذين يعيشون على الإقراض بالربا.. فنقول لهم: إنْ كنتم تملكون أموالا طائلة حلالا، فجديرون أنتم بالشفقة والرحمة من طول الحساب والسؤال يوم القيامة، قال ﷺ: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع؛ عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه"، فكيف وأموالكم من حرام؟! قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: صف لنا الدنيا. فقال: ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء، حلالها حساب وحرامها عقاب.
ثم نعلمكم بأنه ليس عليكم أنْ تُخرجوا زكاة أموالكم! أموالكم هذه لا تجب فيها الزكاة، لأنها أُخذت ظلما وعدوانا وتخويفا وتهديدا، والمال الذي هذا حاله لا يُخرَج منه 2.5%، الذي هو مقدار الزكاة؛ ولكنه يُخرَج جميعا بنسبة 100% لأصحابه وأربابه ومستحقيه.
ومن عجيب ما قرره بعض العلماء: جواز التصدق على السلاطين والأمراء الظلمة، واعتبارهم فقراء! لأنّ ما في أيديهم إنما هي أموال المسلمين، فلو ردّوها لم يبق في أيديهم شيء، فتحل عليهم الصدقة. قال محمد بن مسلمة: يجوز دفع الصدقة لعلي بن عيسى بن ماهان، والي خراسان، هذا الرجل وجبت عليه كفارة يمين، فسأَلَ، فأفتَوه بصيام ثلاثة أيام، فجعل يبكي ويقول لحشمه: إنهم يقولون لي: إنّ ما عليك من التبعات فوق ما لك من المال، فكفارتُك كفارةُ مَنْ لا يملك شيئا؛ تصوم ثلاثة أيام... فهذا هو الصنف الثاني: "الظالم".
ثم ذكر تعالى الصنف الثالث؛ وهو "العادل"، فقال: (َوأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟) [البَقَرَةِ: ٢٧٥]، فالبيع عَدل، لأنه تمليك منفعة مباحة بعِوَضٍ ماليّ، تُعطي سلعة وتأخذ مالا، هذا عدل.
فأصبح عندنا المتصدق هو المحسن، وآكل الربا هو الظالم، والبائع هو العادل.. فكنْ أيها القارئ من الصنف الأول، أو الثالث إنْ شئت، وإياك أنْ تكون الثاني.