كاتب المقال: رئيس مركز أمان- المركز العربي لمجتمع آمن، الشيخ كامل ريان
أن تقف في رحاب المسجد الحرام والمسجد النبوي، أن تذوب روحك في سكينة المكان، أن تنسى العالم الخارجي وأنت بين يدي الله، تلك تجربة لا يدركها إلا من عاشها، ومن ذاق لذّتها وامتلأت بها جوانحه.
حالة إيمانية لا مثيل لها
عشرة أيام من الاعتكاف في مكة، ثم أيام أخرى في المدينة، كانت كافية لأن تعيد تشكيلَ وجداني من جديد. شعور الخشوع هنا مختلف، ليس مجرد رهبة الصلاة، بل سكينة تفيض على القلب حتى يغدو خفيفًا كريشةٍ، تحمله الدعوات، وتغسله الدموع. وكأنّني أسمع صدى قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28).
مشهد يستحق التأمّل: الملايين بلا فوضى
وسط هذا الحشد الهائل، حيث الملايين من الحجاج والمعتمرين، يخيّل للمرء أن الفوضى أمر حتميّ، قياسًا بأصغر الاجتماعات أو الملتقيات الّتي نشارك بها في قرانا ومدننا المختلفة، لكنّ العكس هو ما يحدث. التنظيم هنا ليس مجرد تدبير بشريّ، بل منظومة تعمل بانسجام مدهش. المملكة العربية السعودية تستحق كل التقدير على هذا الجهد الجبّار، حيث تتكامل الجهود ليشعر الزائر وكأنّه في رحلة إيمانية سلسة، لا تعكّر صفوها العشوائية أو الزحام.
وفي هذا، أستحضر حديث النبي ﷺ: “مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ” (رواه مسلم).
وهذه الرحلة، إن صحّت فيها النيّة، فإنها طريق إلى الجنة، فهي ليست مجرد أسفار، بل ارتقاء روحي وتهذيب للنفس.
رجال الأمن: مهنية وصبر وتواضع
لم يكن التنظيم ليبلغ هذا المستوى إلا بجهود رجال الأمن، الّذين لفتني صبرهم وتواضعهم رغم الأعداد الهائلة التي يوجّهونها يوميًا. ترى في أعينهم حرصًا على خدمة ضيوف الرحمن، وفي سلوكهم مهنية تفرض الاحترام، فهم يفرّجون الزحام ويضبطون الحركة بكلمات هادئة وأفعال راقية.
وهذا امتثال لقوله ﷺ: “خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ” (رواه الطبراني).
إطعام الملايين والإيثار بين المصلين
من أروع ما رأيت مشهد موائد الإفطار، حيث تمتدّ الصفوف بالماء والتمر والقهوة، وحين يرفع الأذان تنطلق الأيدي بالإيثار قبل الأخذ، الكل يحرص أن يقدّم قبل أن يأخذ، وكأنّ هذا المكان لا يُذكر فيه سوى العطاء. وأي مشهد أعظم من أن ترى حديث النبي ﷺ يتحقق أمامك: “مَن فطَّرَ صائمًا كان له مثلُ أجرِه غيرَ أنَّه لا ينقُصُ مِن أجرِ الصَّائمِ شيءٌ” (رواه الترمذي).
غربة الروح رغم الطمأنينة
وسط هذه الأجواء الإيمانية، نعم، أشعر بالراحة والخشوع، لكنّ قلبي ما زال هناك، مع شعبي في الأراضي المحتلة والذي يعاني الأمرّين من الاحتلال وبوائقه، ومع أهلي في المجتمع العربي الفلسطيني الّذين يواجهون الألم كل يوم من قبل مارقين من أبناء جلدتنا قد امتهنوا القتل والفتك والخاوة ولا يرقبون في الله إلًّا ولا ذمّة. أشعر بغربة عن أبنائي وأحفادي، عن إخوتي وأقاربي، وكأنّ فرحة الاعتكاف لم تكتمل لأنّها لم تشمل الجميع.
لحظات البكاء حينما يهتز القلب مع الدعاء أكثر اللحظات تأثيرًا كانت تلك الّتي يشرع فيها الإمام بالدعاء، حين يختلط صوته بالبكاء، وحين لا يستطيع المصلّون إمساك دموعهم، فتفيض القلوب قبل العيون.
حينها، كنت أردد مع الإمام في قلبي:
“وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ” (البقرة: 186).
الاعتكاف: عزلة لكنّها مصالحة
قد يبدو الاعتكاف عزلة وبعدًا عن العالم، لكنه في الحقيقة فرصة للمصالحة؛ مع الله أولًا، ثم مع النفس، ثم مع الآخرين. قال النبي ﷺ: “مَن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه” (متفق عليه).
مؤتمر وحدة المسلمين: نقاش حضاري رغم الاختلاف
تشرّفت بالمشاركة في مؤتمر نظّمته رابطة العالم الإسلامي، بحضور ثلة من العلماء والمشايخ ومن بينهم الشيخ السديسي والشيخ ابن حميد، وعلماء من أكثر من خمسين دولة. كان عنوان المؤتمر "بناء الجسور بين مذاهب الأمّة”، وشهد نقاشات صريحة، عكست التنوّع والاختلاف، ولكنها في ذات الوقت أكّدت على ضرورة الالتقاء عند الثوابت الجامعة والغايات النبيلة والمقاصد العالية، حيث تأكّد لي من خلال هذا المؤتمر المصغّر، والذي جاء على هامش المؤتمر العالمي للأمّة الإسلامية وهو زيارة بيت الله الحرام، أنّ هذه الأمّة لن تهزم بعون الله، خصوصًا حينما ترى التعاضد والتكاتف والمودّة والمحبّة بين جميع مركّبات الأمّة، بغضّ النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو الجغرافيا، كلهم يلبّون نداء "الله أكبر" في نفس الوقت وفي نفس النسق وفي نفس الروح وفي نفس الحركة.
رحلة الحاج بين الدنيا والآخرة
الحج والعمرة، والصلاة في الحرمين الشريفين، ليست مجرد طقوس أو أعمال ظاهرية، بل هي محطّات اختبار لصدق النوايا. هناك من يأتي ليقترب من الله، وهناك من يأتي ليجمع صورًا تذكارية، وهناك من يأتي ليعود بروح نقيّة، وهناك من يغادر كما جاء، بلا أثر.
فيا حاجّ بيت الله، ويا معتمر المسجد الحرام والمسجد النبوي، إنّك وحدك من يستطيع أن يحدّد وجهته:
• هل جئتَ طلبًا للآخرة؟ أم جئتَ لهثًا وراء دنيا زائلة؟
• هل سعيتَ لتطهير روحك؟ أم كنتَ مشغولًا بالمظاهر والمجاملات؟
• هل أقبلتَ على الله بقلبك قبل جسدك؟ أم تركت قلبك في الدنيا ولم تأتِ إلا بجسدك؟
قال النبي ﷺ: “إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امرئٍ ما نَوَى” (رواه البخاري ومسلم).
إن كانت وجهتك إلى الله، فسيصلح الله قلبك، وسيعود حجّك وعمرتك نورًا لقلبك وحياتك. أما إن كانت وجهتك إلى دنيا زائفة، فسرعان ما ستعود إلى ما كنت عليه، كأنك لم تأتِ، ولم تصلِّ، ولم تخشع.
فهنيئًا لمن خرج من هذه الرحلة بروح نقية، ونية خالصة، ووجهة واحدة ومبادرات خير جديدة تحت مظلّة واحدة: عمل الخير بخير العمل