آخر الأخبار

الحسم العسكري، الحسم المستحيل

شارك الخبر

الحسم العسكري، الحسم المستحيل

الشّيخ صفوت فريج
رئيس الحركة الإسلامية

في صراعات الشعوب الممتدّة عبر التاريخ، قلّما استطاعت القوّة العسكريّة وحدها أن تحقّق انتصارًا دائمًا يؤسّس لسلامٍ مستدام. وإن كان الحسم العسكري أحيانًا يُحقّق بعض المكاسب، فإنّ جذور النزاعات لا تُجتثّ إلّا من خلال حلول سياسيّة قائمة على التفاهمات والتوازنات، وأحيانًا في التقاء المصالح.

الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس استثناءً، بل هو نموذج حيّ لصراعٍ لا يمكن اختزاله في مواجهة القوّة بالقوّة، بل يحتاج إلى رؤية سياسيّة عميقة ومبادرات جريئة. بات واضحًا بما لا مجال للشكّ فيه أنّ الحسم العسكري في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم يحقّق حلولًا ولا سلامًا مستدامًا.
لم تتحرّر الأرض، ولم يتحقّق حلم إقامة الدولة الفلسطينيّة إلى الآن رغم تعدد المواجهات العسكرية، وفي المقابل لم تنعم إسرائيل بنصرٍ أو بأمنٍ في حربها وبعد حربها على غزّة. ما تحقّق هو دمار شامل، وتشريد واسع لمئات آلاف العائلات، وإزهاق غير محدود لأرواح عشرات آلاف الضحايا الأبرياء.

حتى صفقة التبادل لم تتحقّق بقوّة السلاح كذلك، بل جاءت نتيجة تفاهمات سياسيّة ومفاوضات طويلة بين الأطراف المعنيّة. وهي دليل واضح على أنّ القوّة العسكريّة ليست السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف، حتى في ظلّ نزاع شديد التعقيد والصعوبة كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لقد أظهرت هذه الصفقة أنّ الحوار والتفاوض، رغم تعقيداتهما وتعرّجاتهما، يبقيان المسار الأقدر على تحقيق نتائج ملموسة وحماية أرواح الأبرياء، بعيدًا عن الدمار والمآسي التي لا تنتهي.

ماذا تبقّى إذن؟ يبدو يقينًا أن لا مناص عن الحلّ السياسي، فرغم تعقيداته، يبقى الحل الوحيد القادر على إرساء قواعد الاستقرار وحماية تطلّعات الطرفين، إن صدقت النوايا وتوفّرت الإرادة، وتغلّب الطرفان على التحدّيات والمطبّات والعراقيل، وهي كثيرة وشائكة، بدءًا من غياب الثقة بين الطرفين، ممّا يعمّق حالة الشكّ ويؤجّج الصراع، مرورًا بتعنّت القيادات السياسيّة الّتي تخشى أن تدفع ثمن أيّ تنازلات أمام شعوبها، وانتهاءً بالتدخّلات الخارجيّة الّتي تغذّي جذوة الصراع خدمةً لمصالحها. ولا شكّ أنّ وجود قوى متطرّفة في التشكيل الحكومي الإسرائيلي، يزيد من توغّل الاستيطان، وتحويل الضفّة الغربيّة إلى سجن كبير، وهذا بحدّ ذاته عائقًا قائمًا بنفسه أمام التوصّل إلى حلّ سياسي.

أيضًا فإنّ الانقسامات الداخليّة الفلسطينيّة، تُضعف الموقف الفلسطيني، وتُغيّب الإرادة السياسيّة الجمعيّة الّتي من المفروض أن تتّفق على مشروع وطني موحّد، مع مسار واستراتيجيّات لتحقيقه. ولا يقتصر الانقسام الفلسطيني على تعقيد الموقف الداخلي فحسب، بل يعطّل أيضًا تشكيل رؤية موحَّدة تُطرَح أمام الأطراف الدوليّة. إنّ غياب التنسيق بين الفصائل أدّى وما زال إلى تعميق الهوّة السياسيّة، ممّا جعل من القضيّة الفلسطينيّة في نظر البعض قضيّة منقسمة على ذاتها، لا تمثّل جميع الفلسطينيّين على وجه واحد.

إلى جانب هذا كلّه، نجد تحدّيات وحسابات معقّدة، يرى من خلالها الإسرائيليّون في أيّ تنازل سياسي تهديدًا لأمنهم القومي، بينما ينظر الفلسطينيّون إلى الحلول المطروحة كإخلال بحقوقهم الأساسيّة، وعلى رأسها حقّ العودة، والقدس عاصمة. ولا يمكن تجاهل الأبعاد الاقتصاديّة لهذا الصراع، إذ إنّ استمراره يفرض أعباءً هائلة على الطرفين. بالنسبة لإسرائيل، فإنّ التكاليف الاقتصاديّة للحروب، والإنفاق على المنظومات الأمنيّة، واستمرار عزلة بعض أسواقها الدوليّة، كلّ ذلك يشكّل عائقًا أمام تحقيق نمو اقتصادي مستدام، ويدفع بها بعيدًا عن مصافي الدول المتقدّمة. في المقابل، فإنّ هذا الصراع يدفع بالواقع الفلسطيني نحو دوائر أعمق من الفقر والتبعيّة الاقتصاديّة.

إنّ السبيل الوحيد لإنهاء دوامة الحروب والمعاناة هو السير على مسار تسوية سياسيّة واضحة المعالم، تنطلق من مبدأ دولتين لشعبين، بحيث يضمن هذا المبدأ تطلّعات الطرفين بشكل متساوٍ ومشروع. لتحقيق ذلك، لا بدّ من وسيط دولي ذي مصداقيّة، يمتلك القدرة على بناء جسور الثقة بين الجانبين، مع تفعيل ضغوط دوليّة جادّة تُلزِم الأطراف بالجلوس إلى طاولة مفاوضات قائمة على احترام الحقوق المتبادَلة. لا شكّ أنّ التسوية الحقيقيّة تتطلّب شجاعة سياسيّة واعترافًا متبادلًا يضع أساسًا متينًا لحلّ مستدام.

لم تكن نكبة 1948 نتيجة تفوّق عسكري أو ترتيبات دبلوماسيّة معزولة، بل كانت انعكاسًا مباشرًا للتغيّرات الجذريّة الّتي شهدها العالم إثر الحربين العالميّتين الأولى والثانية. لقد أدّت هذه الحروب إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسيّة، حيث استخدمت القوى العظمى نفوذها لترسيخ مصالحها عبر قرارات دوليّة، مثل قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتّحدة. اليوم، يظهر من خلال أحداث السابع من أكتوبر والحرب على غزّة أنّ القوة العسكريّة ليست السبيل لتحقيق سلام ولا أمن على المدى المنظور، وتؤكّد مجدّدًا على صعوبة الحلول العسكريّة في حلّ جذور الصراع.

كل العرب المصدر: كل العرب
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا