لقد كانت مفاوضات الصفقة وتبادل الأسرى نائمة ومهملة ولم يكترث لها نتنياهو منذ شهر أيار/مايو الماضي. أما الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي خسر حزبه الديمقراطي الانتخابات لصالح الجمهوري المتعجرف دونالد ترامب، فقد بذل خلال تلك الفترة محاولات جادة لإقناع نتنياهو بتمرير الصفقة والتفاوض مع حماس. ولكن طاقمه، الذي يغلب عليه مؤيدو إسرائيل والملف الصهيوني كوزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، لم يفلح في إقناع نتنياهو بتمرير الصفقة والتوصل إلى اتفاق مع حماس من أجل وقف إطلاق النار على قطاع غزة.
هذا واستمر نتنياهو في سياسة المماطلة والتدمير المنهجي للقطاع ولجنوب لبنان أيضًا. أما الجانب الأمريكي الديمقراطي، فقد تكبّد خسارة فادحة ومدوية في الانتخابات التي جرت منذ شهرين فقط، في مطلع نوفمبر الماضي.
وبعد ضغوط شعبية داخلية قوية من الرأي العام الإسرائيلي على حكومة نتنياهو، بدأ الأخير يُظهر وكأنه يعيد النظر في قضية التفاوض مع حماس من أجل إطلاق سراح الأسرى والرهائن الإسرائيليين، الذين بلغ عددهم حتى الآن، وبعد القصف الإسرائيلي المتواصل وبلا هوادة 100 رهينة، بين مدنيين وجنود ومواطنين إسرائيليين بأيدي حماس.
وقبل شهر استدعت الإدارة الأمريكية، وبشكل عاجل، قطر ومصر للعمل على عقد مفاوضات مكثفة من أجل توقيع هذه الصفقة بأسرع وقت ممكن قبل انتهاء ولاية بايدن. لكن حكومة نتنياهو تبدو غير جادة وغير معنية بالتوقيع على اتفاق تبادل جدي مع حركة حماس أو الانسحاب من قطاع غزة، ولا تدرك فعليًا إلى أين يمكن أن تصل هذه المفاوضات العبثية التي لا تمنح الطرف الآخر أي إنجازات تُذكر.
فعلى صعيد إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين ، فان إسرائيل تحتجز أكثر من 7,000 فلسطيني، وأقصى ما يمكن أن تطلق سراحه بحسب كافة التقديرات هو 1,000 أو 1,200 أسير فلسطيني مقابل 100 رهينة إسرائيلي. وقد فرضت إسرائيل فيتو على إطلاق سراح أكثر من 60 أسيرًا فلسطينيًا ذوي المحكوميات العالية، من بينهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات وآخرون، كما طالبت بطرد عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين الذين قد يُحررون إلى دول خارج فلسطين، مثل تركيا وإيران.
فضلًا عن ذلك، ترفض إسرائيل توقيع اتفاقية شاملة تُطلق بموجبها سراح كافة الرهائن الإسرائيليين مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في نفس الوقت، بل تُصر على توقيع اتفاقية تدريجية مكونة من عدة مراحل. هذا النهج يتيح لإسرائيل إمكانية عدم تطبيق بنود الصفقة بالكامل، تمامًا كما حدث في شهر نوفمبر الماضي 2023، حينما وقعت صفقة لم تحترمها إسرائيل.
ويدير هذا الملف حماس والوسطاء بمهارة، على الرغم من استمرار إسرائيل في قصفها المتواصل على القطاع، مستهدفة البنية التحتية السكانية والمدنية في الشمال والوسط والجنوب. كما أن جيشها ينتشر في شمال القطاع، في مناطق مثل جباليا وبيت لاهيا، إضافة إلى سيطرته على محور فيلادلفي ومعبر رفح ونتساريم في الوسط.
في الأيام القليلة الماضية، قام الجيش الإسرائيلي بإخلاء المستشفيات، خاصة المستشفى الإندونيسي ومستشفى كمال عدوان، من المرضى والجرحى، بهدف القضاء على أي شكل من أشكال الحياة للسكان الفلسطينيين هناك. ومع ذلك، لا نسمع الكثير من استنكار الطرف الوسيط، سواء القطري أو المصري أو الأمريكي، لما تفعله إسرائيل في شمال القطاع وجنوبه.
في هذا السياق، يمكن القول إن مطالب الجانب الفلسطيني واضحة، وهي تتعلق بوقف كامل لإطلاق النار، انسحاب شامل من الشمال، والسماح لسكان جنوب قطاع غزة بالعودة إلى بيوتهم، مع الانسحاب الكامل من محور فيلادلفي ومعبر رفح ونتساريم.
أما حكومة إسرائيل، فتواصل المماطلة بشأن هذه البنود كافة، وتطرح انسحابًا جزئيًا من محور فيلادلفي ومعبر نتساريم. في الوقت ذاته، يحاول الجهاز العسكري إقناع نتنياهو بأن من الأفضل الانسحاب من مناطق واسعة في القطاع، لأن حماس بدأت في تغيير استراتيجيتها، متحولة من جيش عسكري منظم إلىتنظيم يدير حرب عصابات تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر يومية فادحة في الأرواح.
لذا فان نتنياهو بدأ يعترف جزئيًا بالحقائق والوقائع الجديدة على الساحة القتالية، نتيجة للضغوط الداخلية والدولية لكنه يصر على تمرير صفقة تبادل الأسرى على مرحلتين أو ثلاث، وهو أمر ترفضه حركة حماس وقادتها الذين يديرون المفاوضات.
وفي مقابلة إذاعية حديثة، صرح الجنرال دان هرئيل، نائب رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، بأنه حان الوقت لإسرائيل للاعتراف بأن حماس لم تستسلم في هذه الحرب. لقد تعرضت لهزيمة تكتيكية في معركة استمرت أكثر من خمسة عشر شهرًا، لكنها قادرة على إعادة بناء قوتها العسكرية. وأكد أن عدم توقيع اتفاق تبادل الأسرى قد يؤدي إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، وهو ما يجب أن تتجنبه إسرائيل عسكريًا.
وفي النهاية، توصل العديد من الإسرائيليين في الاجهزة العسكرية السياسية والإعلامية إلى أن استراتيجية نتنياهو فاشلة، وقد تؤدي إلى خسارة إسرائيل في هذه الحرب الطويلة الأمد، حيث لا يزال مستقبل الصفقة غامضًا؛ فهل يوقع نتنياهو الاتفاق أم يماطل حتى يعود ترامب إلى الحكم، على أمل تحقيق نتائج أفضل؟ في كل الأحوال، الوقت عامل حاسم، وإضاعته ستؤدي إلى المزيد من الخسائر البشرية على الجانبين، وربما صفقة لا تشمل أسرى أحياء.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com