ما زال الجدل في الدوائر الرسمية والشعبية في إسرائيل، قائمًا ومستعرًا بكل ما يتعلق بالهدنة ووقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية، فعلى الرغم من أنه ابرم اتفاق بين الطرفين الإسرائيلي وللبناني، الا ان القوات الإسرائيلية مازالت رابضة في مناطق عديدة على طول حدود الجنوب اللبناني، كقرية مارون الراس، كفر كيلا، يارون، العدسية والخيام والعديد منها، وتمنع المواطنين اللبنانيين القدوم والرجوع الى بيوتهم، حتى انها تستعمل القذائف والدبابات، لقصف أماكن تواجدهم بزعمها انهم من حزب الله، كما يبث الجيش الإسرائيلي نداءات تسمع بالراديو الإسرائيلي، تمنع وتحذر السكان من الرجوع إلى بيوتهم.
ويسود الفزع والخوف الكبير سكان شمال البلاد الإسرائيليين، بحيث ان العديد منهم لم يقرر حتى الان الرجوع، الى أماكن سكناهم في قراهم ومستوطناتهم على الحدود مع البنان، على الرغم من أن الحكومة خصصت مليارات الدولارات لإقناعهم وتعويضهم، بهدف الرجوع الى أماكن سكناهم، ويسود الاعتقاد ان هؤلاء السكان سوف يرجع العدد القليل منهم فقط، في حال استتب الاستقرار ووقف اطلاق النار بشكل كامل ومطلق مع حركة حزب الله، وهذا الامر يمكن ان يحدث فقط، بعد شهرين من الان، أي مدة سريان وانتهاء وقف اطلاق النار مع لبنان، بحيث يسود الاعتقاد في أوساط عسكرية ان الجيش الإسرائيلي، مازال مختبأ ومتواجدًا في العديد من القرى اللبنانية، ومن الصعب عليه عسكريا، الخروج بشكل مباشر وسريع من مخابئه في الأراضي اللبنانية، بحيث انه يحتاج الى وقت طويل لإخراج جنوده دباباته ومعداته بأمان، ويخشى من الكمائن والاشتباكات التي يمكن ان تنصب له هناك.
وإزاء هذه التعقيبات على الجبهة اللبنانية، فقد بدأ ينصب الاهتمام أيضا، الى ما يحدث على الجبهة في قطاع غزة، بحيث ان قرار محكمة الجنايات الدولية التي طالبت باعتقال دولي لبنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالنت، وجلبه الى المحاكمة في لاهاي بدأ يأخذ ذلك مفعوله، وتأثيره على حكام إسرائيل حيث انهم بدأوا يطالبون ليس على توقيع على صفقة اسرى مع حماس فقط، وانما بالإسراع أيضا، بإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين بأيدي حماس، ولأول مرة منذ اشهر، طلع علينا احد الاسرى الذي يدعى عيدان الكسندر، وهو جندي ويحمل جنسية إسرائيلية أمريكية كان يخدم في سلاح المدرعات في سبعة أكتوبر/ تشرين الأول، على شاشات التلفزيون وقال إنه محتجز واسير بأيدي حماس وطالب نتنياهو وترامب بان يفعلا الكثير من اجل اطلاق سراحه والإسراع بإجراء عملية تبادل اسرى، وكان واضحا ان الأسير الكسندر كان يشعر بارتياح وانه موجود بوضع جيد، لكنه طالب وبشدة العمل على تحريره واجراء عملية تبادل بالسرعة الممكنة، واجهش بالبكاء في نهاية المقابلة معه.
ولا نعلم ما هو الهدف من اظهار هذا الفيديو من قبل حركة حماس، لكن يمكن ان يكون ذلك بالفعل رغبة الفلسطينيين لأبرام صفقة مع إسرائيل، يمكن ان تؤدي الى إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين مقابل عدد كبير من الاسرى الفلسطينيين، وفي نفس الوقت العمل على وقف إطلاق النار على كافة الجبهات وانسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة.
اما ما لا يعلمه الكثيرين فهو ان إسرائيل بالفعل تريد تحرير محتجزيها واسراها سواء كان ذلك بعمل عسكري او بصفقة، لكنها لا تريد دفع أي ثمن مقابل ذلك، فقد بات من المؤكد ونتيجة القتلى الإسرائيليين وليس فقط الفلسطينيين الذين يقتلون في العشرات يوميا، بانها تسعى لإخلاء شمال القطاع وخاصة منطقة بيت لاهيا ومخيم جباليا والشيخ رضوان وحي الزيتون، بحيث ان الوية الجيش الاسرائيلي الخاصة مازالت تعمل هناك منذ اشهر، ووفقا لخطة الجنرالات التي أقترحها الجنرال غيورا ايلانت، وهو قائد سابق لقيادة الامن القومي في الجيش الإسرائيلي وينفذها الجيش الإسرائيلي بحذافيرها هناك، حيث سميت هذه الخطة بخطة الجنرالات التي تبناها الجيش الإسرائيلي والجهاز السياسي بالكامل والمتمثلة بإخلاء المِنطقة بأكثر من 350 الف فليسطيني من شمال القطاع وإبقاؤها على اقل من عشرة الاف فلسطيني يسكنون فيها مع القضاء على أي تواجد مسلح هناك والسيطرة المطلقة على مصادر الغذاء لهؤلاء السكان.
ومنذ أشهر مازال الجيش يحاصر هؤلاء السكان في جباليا ويقتل منهم يوميا بالعشرات والمئات، بهدف تهجيرهم حيث ان السيطرة على تلك المنطقة تمكنه من السيطرة على منطقة كبيرة محاذية لغلاف غزة.
ويمكن القول إن هذه الخطة لم تعد خطة سرية وجنونية يتداولها المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية، حيث يقول سمو ترتش بان علينا العمل على تخفيف كمية السكان القاطنة في قطاع غزة، ويضيف بن غفير أن على إسرائيل العمل الكثيف على تهجير سكان غزة الى خارج القطاع، اما نتنياهو فسوف يكتفي بتبني خطة الجنرالات سرا ويستمر الادعاء بان استمرار السيطرة على معبر نتسارين ومحور فلدفلي هي من الامور الحيوية والاستراتيجية من اجل السيطرة الأمنية على قطاع غزة، بدون ذكر ما تفعله هذه الحكومة من جرائم بحق السكان في شمال قطاع غزة، كما ان الأمريكيين وادارة بايدن أيضا، تغضّ الطرف عمّا يحدث وتستمر في ترديد شعارات أهمية اطلاق المحتجزين الإسرائيليين من قطاع غزة.
ولم يتوقع الرأي العام الإسرائيلي ما أعلنه الجنرال في الجيش الإسرائيلي قائد الأركان ووزير دفاع سابقا بوغي ياعلون بان ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة هو تطهير عرقي وبمثابة جرائم حرب، وقد صُعق العديد من تيارات الراي العام الإسرائيلي من هذه التصريحات، مدعين انهم لا يفهمون ما يقوله يعلون وطالبه العديد بإعادة النظر لهذه التصريحات، كونها تؤثر الكثير على مجرى ومسار محكمة الجنايات الدولية التي تقاضي نتنياهو وجنرالات آخرين في جرائم الحرب في قطاع غزة.
هذا ويمكن القول إن هنالك ضغطًا شعبيًا على حكومة نتنياهو لتوقيع اتفاقية تبادل، لكنه لا يريد امرين اثنين، وهو وقف اطلاق النار في القطاع والانسحاب الكامل من هناك، إضافة إلى أنه غير مستعد لتحرير اسرى فلسطينيين مقابل هؤلاء المحتجزين، وقد خرج من المفاوضات الجانب القطري ويحاول الجانب المصري وبأوامر أمريكية، التوسط في هذا الشأن ولكن اهداف إسرائيل هي ابعد بكثير من العمل على تحرير الاسرى وتوقيع الصفقة مع حماس، بل انها تريد خلق واقع امني فوضوي في غزة كي تمنع في نهاية الامر أي تلاحم وتعاضد مع الضفة الغربية لان هذا التمازج سوف يؤدي الى دولة فلسطينية.
ويعمل النظام الإسرائيلي جاهدا على استمرار وضع القطاع في مستقبل استراتيجي مبهم، كي لا يتم توقيع أي اتفاقية بهذا الصدد، حيث يؤثر ذلك بشكل مباشر على الجانب الفلسطيني، ولكنه في نهاية الامر يؤثر أيضا، على إسرائيل ويجعلها تستمر في حالة عدم استقرار استراتيجي حتى انه من الصعب ان يساعد ترامب القادم الى البيت الأبيض في عشرين يناير/ كانون الثاني المقبل في هذا الشأن، ويبقى ما قاله يعلون بكل ما يتعلق بان ما تفعله إسرائيل في غزة هو تطهير عرقي وابادة وهو النتيجة الحتمية لسياسية الحكومة الإسرائيلية في هذه الحرب الغاشمة التي مازالت مستمرة منذ اكثر من أربعة عشر شهرًا.