طهران- ما إن انقشعت سحب الغبار التي أثارتها حرب يونيو/حزيران الماضي، حتى شرعت إيران في ترميم منظوماتها الدفاعية وتعزير ترسانتها التسليحية من جهة، وإجراء سلسلة من التغييرات الهيكلية وفي رأس هرم مؤسساتها الأمنية والعسكرية والسياسية من جهة أخرى، بهدف هندسة القوة استعدادا لاستحقاقات إقليمية ودولية مرتقبة.
وإثر قمة منتجع مارالاغو في ولاية فلوريدا، تقرأ طهران تأكيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مؤتمره الصحفي المشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة– بأنه سيدعم ضربات إسرائيلية مستقبلية عليها إذا استمرت في تطوير برامجها للصواريخ الباليستية والأسلحة النووية في إطار المبررات المحتملة لأي عمل عسكري مستقبلي عليها.
في المقابل، يرى مراقبون إيرانيون أن زيارة نتنياهو الأخيرة إلى فلوريدا قد حققت أحد أهدافها الأساسية في تحويل البرنامج الصاروخي الإيراني و البرنامج النووي، إلى "خط أحمر" مشترك في السياسة الأميركية، مما يجعل الصدام احتمالا قائما لا سيما في ظل تصريحات إيرانية رافضة للمطالب الأميركية المتمثلة في تفكيك برنامج طهران النووي ومناقشة برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية.
وبينما تسرّع طهران من وتيرة إعادة ترتيب أوراقها العسكرية استجابة لتداعيات الحرب الماضية التي كشفت عن ثغرات أمنية وأثارت جدلا داخليا بسبب الإشكاليات في الأداء والتنسيق، تقرأ الأوساط الإيرانية هذه الخطوات المتسارعة في سياق الاستعداد لمرحلة جديدة قد تكون فيها القوة الناعمة والمواجهة الخشنة وجهين لعملة واحدة.
من ناحيته، أوضح عبد الرضا داوري الناشط السياسي المحافظ ومستشار الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، أن الجهات المعنية في بلاده بدأت استخلاص الدروس والعبر من المعركة السابقة فور توقف الهجمات التي أحدثت تغييرا نسبيا في عقيدة البلاد العسكرية.
وأشار في حديثه للجزيرة نت إلى أن هذه العقيدة القائمة على الضربة الثانية لم تعد قائمة مع "العدو الإسرائيلي"، مضيفا أن سيناريو قيام طهران بعمليات استباقية مطروح بقوة في الأوساط الإيرانية، وأنها "سحبت طلبها السابق بعدم تدخل فصائل المقاومة في معركتها مع كيان الاحتلال".
ووفقا له، فإنه لا يمكن لبلاده القبول باستمرار "حالة لا حرب ولا سلم" التي من شأنها تكبيد الاقتصاد الوطني خسائر كبيرة، وأن شريحة كبيرة من الأوساط السياسية والعسكرية تدفع باتجاه ضرورة القضاء على قدرات "العدو" وفق التوقيت الذي تراه طهران مناسبا طالما هو من بدأ الحرب التي لم تنته بعد ولا يزال يواصل تهديداته.
وكشف داوري عن تشكيل مجلس تنسيقي بمشاركة رؤساء الأجهزة الاستخبارية حتى نضوج فكرة دمجها لخلق كيان استخباري مركزي أكثر انسجاما وقوة في بنيته الأمنية.
من ناحيته، وصف القيادي السابق في الحرس الثوري العميد المتقاعد حسين كنعاني مقدم المعركة المقبلة بين إيران وإسرائيل بأنها "وجودية" وقال إن طهران أعدت لها العدة جيدا، كاشفا عن إدخال تسليحات إستراتيجية بما فيها مقاتلات " سوخوي-35" الروسية و"جي- 10 سي" (التنين القوي) الصينية وأخرى مستقدمة لا يمكنه الكشف عنها.
وفي حديثه للجزيرة نت، اعتبر كنعاني أن استيعاب الضربة الأولى وكيفية الرد عبر موجات منسقة تشكل أولى الدروس التي اكتسبتها طهران من الحرب الأخيرة، كاشفا عن جاهزية 2000 صاروخ باليستي في الوقت الراهن تحمل روؤسا حربية بزنة طنّين وستطلق من تحت الأرض وتحت المياه، إلى جانب تلك التي ستطلق من على منصات متحركة موزعة في ربوع البلاد وغير مرتبطة بالمدن الصاروخية التي قد تتعرض لقصف مسبق.
ولدى تأكيده أن بلاده خسرت جزءا من مضاداتها الجوية جراء هجمات إلكترونية سبقت الهجمات العسكرية في الحرب الماضية، تابع كنعاني إن المضادات الجوية الوطنية تم ترميمها إضافة إلى إدخال طرازات جديدة الخدمة وتوطين مضادات جوية أجنبية لكي لا تحتاج إلى إشارات نظام "جي بي إس" ولا لتوجيه الأقمار الصناعية للدول المصنعة، مؤكدا أن بلاده أمست لديها أقمار صناعية وطنية تقوم بالمهمة اللازمة.
وأشار إلى تدشين طراز حديث من المضادات الجوية إثر نجاح طهران في إنتاجه عبر الهندسة العكسية عن نموذج أجنبي، مؤكدا وضع خطط محكمة لإطلاق موجات كثيفة من الصواريخ وا لمسيرات القديمة لإلهاء وتفريغ صواريخ المضادات الجوية "للعدو" قبل إطلاق الموجات الرئيسية من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية أو المسيرات المتطورة لا سيما تلك المزودة بمحركات نفاثة.
وبينما كشف القيادي العسكري السابق عن تطوير إيران أسلحة بلازما وأخرى تعمل بتقنية الليرز بقدرات خارقة، قال إنه لا يستبعد تطور المعركة المقبلة إلى حرب عالمية، تشارك فيها قوى شرقية وازنة إلى جانب إيران في مواجهة التحالفات الغربية.
في غضون ذلك، تناول مغردون إيرانيون شريطا مصورا للناشط السياسي الإصلاحي الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه، يؤكد فيه امتلاك بلاده قدرات دفاعية هائلة قادرة على تحويل أي مواجهة عسكرية محتملة إلى كارثة واسعة النطاق، مشددا على أن تصريحاته ليست مجرد حديث سياسي، بل تستند إلى معرفة عميقة، انطلاقا من شغله مناصب مسؤولة عن الموازنة الدفاعية.
من ناحيته، أشار العقيد المتقاعد في بحرية الحرس الثوري محمد رضا محمدي إلى اعتماد إستراتيجية دفاعية مركبة تقوم على التكامل الوظيفي بين الجيش النظامي والحرس الثوري لا سيما في المياه الإقليمية وأعالي البحار، بهدف تهديد أساطيل الخصم الإستراتيجية وردعه عن التفكير في بدء حرب واسعة، معتبرا أن "إستراتيجية حرب الممرات" إحدى أبرز الأدوات لتحييد الضوء الأخضر الأميركي لمهاجمة طهران.
وفي تصريحه للجزيرة نت، وصف محمدي هذه الإستراتيجية بأنها ركيزة أساسية في عقيدة الردع الإيرانية، خاصة في مضيقي هرمز و باب المندب وما بينهما وصولا إلى البحر الأحمر، مؤكدا تطوير البحرية الإيرانية قدرات فاعلة لتحويل هذه المضايق والممرات إلى ورقة ضغط حاسمة في أي صراع محتمل، معتمدة على الزوارق السريعة و صواريخ كروز ومسيرات انتحارية وغواصات وطوربيدات فريدة وألغام بحرية متطورة.
وبشأن مدى قدرة طهران على امتصاص الضربة الأولى والرد بشكل مُشل، أوضح أن العقيدة العسكرية الإيرانية تتبنى فلسفة "الصبر والضربات المتبادلة" معتمدة على شبكة ضخمة من البنى التحتية العسكرية المشتتة والمخبأة تحت الجبال والمخازن السرية للصواريخ والذخائر، مما يجعل تدمير كامل القدرة الهجومية الإيرانية بالضربة الأولى مهمة مستحيلة، مؤكدا أن التغييرات التي أجرتها طهران في هيكلية المؤسسات العسكرية تندرج في هذا السياق.
وبعد مرور 6 أسابيع فقط على الهدنة التي أنهت حرب الـ12 يوما، بدأت إيران سلسلة من التغييرات في قيادة مؤسساتها الأمنية والعسكرية كان أبرزها تعيين الدبلوماسي المخضرم علي لاريجاني على رأس المجلس الأعلى للأمن القومي، حيث أجرى تغييرات داخله وعلى رأسها تأسيس "مجلس دفاع" بمهام إستراتيجية.
وامتدت موجة التغييرات لتشمل قيادات الفروع الرئيسية في القوات المسلحة. ففي الجيش، عُيّن قادة جدد للقوات البرية والجوية والدفاع الجوي. كما شهد الحرس الثوري تعيينات مماثلة لقيادة القوة البرية والقوة الجوفضائية بالإضافة إلى منظمة الاستخبارات التابعة له.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة