آخر الأخبار

من هو مهندس صعود الدولة الأموية؟

شارك

مَثَّل مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان الأموي سنة 35هـ/655م، وتولّي الخليفة علي بن أبي طالب الهاشمي الخلافة بعده، نقطة تحوّل في تاريخ الدولة الإسلامية المبكرة، إذ انقسم المسلمون لأول مرة منذ وفاة النبي ﷺ إلى معسكرين مختلفين في الرؤية والموقف.

فقد تصاعدت نُذُر الفتنة حتى بلغت ذروتها باستشهاد الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في محرابه على يد عبد الرحمن بن ملجم في رمضان سنة 40هـ/660م، لينتهي بذلك عهد الخلفاء الراشدين على وقع صراعٍ دمويّ أنهك الأمة، حيث تولّى من بعده ابنه الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، فبايعه أهل العراق وطوائف من الجزيرة، عاقدين عليه الأمل في إعادة توحيد الصف بعد انقسام المسلمين بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 ما حقيقة طائر صلاح الدين الأيوبي الأسود الذي أرعب المصريين؟
* list 2 of 2 لماذا اغتال بيبرس السلطان قطز في وهج الانتصار؟ end of list

غير أن الحسن سرعان ما أدرك ضعف موقفه وتخاذل أهل الكوفة، مقابل تفوق الشاميين عددا وتنظيما تحت قيادة معاوية، فآثر طريق الصلح حقنا للدماء، وفي خطوة تاريخية جسّدت الحكمة السياسية والحرص على وحدة الأمة، تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية سنة 41هـ، فيما عُرف بعام الجماعة، بعد أن اشترط أن يكون الحكم شورى بين المسلمين من بعده.

وهكذا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام بقيام الدولة الأموية، إذ تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة ليصبح أول خلفاء هذا العهد، فاتسع نطاق الدولة واستقر نظام الحكم تحت راية البيت الأموي، واستمرّت دولتهم في فرعيها السفياني والمرواني قرابة إحدى وتسعين سنة هجرية (41–132هـ/661–750م)، تعاقب خلالها أربع عشرة خليفة، كان أولهم معاوية، وآخرهم مروان بن محمد بن عبد الملك بن مروان، الذي انتهى بسقوط حكمه عهد بني أمية وقيام الدولة العباسية.

ومن اللافت أن ما تحقق من استقرار سياسي واتساع في رقعة الدولة لم يكن نتاج جهود الخلفاء الأمويين وحدهم، بل كان ثمرة منظومة إدارية وفكرية شارك في بنائها رجال من ذوي الكفاءة والعلم، شكّلوا ما يمكن وصفه بـ"الدولة العميقة" في ذلك العصر، فقد وقف هؤلاء خلف القرارات الكبرى، يرشدون الخلفاء، ويضعون السياسات، ويشرفون على تنفيذها بدقة واتزان.

إعلان

وبرز في طليعة هؤلاء رجاء بن حيوة الكندي، العالم الفقيه والسياسي المحنّك من أهل فلسطين، الذي حاز ثقة خلفاء بني أمية جيلا بعد جيل، فجمع بين الفقه والإدارة، وكان صوته مسموعا في دواوين الحكم، حتى غدا من أقرب المستشارين إلى الخلفاء وأكثرهم تأثيرا في توجيه سياسات الدولة.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف استطاع رجاء بن حيوة أن يترقّى إلى هذا الموقع المحوري داخل النظام الأموي؟ وما أبرز الملفات الحساسة التي أوكلت إليه وأسهمت في ترسيخ نفوذ الدولة واستمرارها؟

مصدر الصورة رسم مائي لمدينة دمشق في عهد الدولة الأموية للرسام سالم مذكور (الجزيرة)

الفقيه السياسي

وُلد رجاء بن حيوة الكندي في مدينة بيسان التابعة للأردن وقتئذ، ثم انتقل في شبابه إلى فلسطين حيث أقام في بيت المقدس حتى وفاته، وتشير الروايات التي ينقلها ابن الأثير في كتابه "أُسد الغابة" إلى أنه التقى بصحبة والده بالصحابي الجليل معاذ بن جبل أحد فاتحي الشام والأردن، حيث نصح والده بتعليمه القرآن الكريم، ما يدل على أن مولده كان قبل وفاة معاذ ببضع سنوات، وينحدر ابن حيوة من أسرة عُرفت بالعلم والدين، فجده جرول بن الأحنف الكِندي كان من الصحابة الذين أدركوا النبي ﷺ وسمعوا منه الحديث.

نشأ رجاء في بيئة علمية وإيمانية، فحفظ القرآن الكريم صغيرا في بيت المقدس، وتتلمذ بعد ذلك على كبار الصحابة والعلماء من أمثال عبادة بن الصامت الأنصاري وأم الدرداء، فجمع بين فقه الشريعة ودقائق الحديث، حتى ذاع اسمه في بلاد الشام، ومع مرور الوقت أصبح من أبرز فقهاء عصره وأعلامه، حتى قال بعض العلماء عنه: "رأيتُ ثلاثة لم أرَ مثلهم: محمد بن سيرين في العراق، والقاسم بن محمد في الحجاز، ورجاء بن حيوة في الشام"، وهو ما يعكس مكانته العلمية المرموقة في المشرق الإسلامي خلال القرن الأول الهجري.

غير أن ما ميّز رجاء بن حيوة عن غيره من علماء الشام وزهّادها في القرن الأول الهجري نظرته الواسعة لمفهوم الزهد والعمل الديني، فقد كان يرى أن العبادة لا تقتصر على أداء الفرائض والنوافل، ولا على الإعراض عن الدنيا وشهواتها، بل تمتد لتشمل المشاركة الفاعلة في شؤون الأمة، والسعي إلى إصلاحها وتوحيد كلمتها.

ومن هذا المنطلق، جمع رجاء بين الورع والزهد من جهة، والانخراط في العمل العام والجهاد والسياسة من جهة أخرى، فشارك في غزوات الروم البيزنطيين، كما تولّى مهام إدارية في دواوين الدولة الأموية، منها ديوان الرسائل الذي يُقابل اليوم وزارة الخارجية.

وقد بدأت صلة رجاء بالأمويين منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، ويُرجَّح أن هذه العلاقة تعود إلى ما قبل تولّيه الخلافة حين كان واليا على الشام، وتشير روايات ابن سعد في "الطبقات الكبرى" إلى أن رجاء كان من الرواة عن معاوية، وقد نقل عنه حديث النبي ﷺ المشهور: "مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفقِّهه في الدين"، وهو ما يدلّ على صلة مبكرة قائمة على الاحترام المتبادل والثقة بينهما، وستتطور لاحقا لتجعل من رجاء أحد أبرز العلماء المقربين من قصور الحكم الأموي.

وظائف رجاء بن حيوة في الدولة الأموية

ومع انتقال الخلافة الأموية إلى البيت المرواني سنة 64هـ/683م بقيادة مروان بن الحكم، تعزّز موقع رجاء بن حيوة داخل دوائر الحكم الجديدة، إذ وجد فيه المروانيون عالِما نزيها واسع الأفق، يجمع بين العلم الشرعي والخبرة الإدارية، ورجلا قادرا على تقديم النصح بحكمة واتزان في مرحلة كانت الدولة تمر فيها بانقسامات عميقة بين عبد الله بن الزبير في الحجاز وعبد الملك بن مروان في الشام.

إعلان

ومن خلال تقديره للظروف السياسية ورغبته في وحدة الأمة، اختار رجاء الوقوف إلى جانب البيت الأموي، مؤمنا أن الاستقرار أولى من استمرار الفتنة.

وكان عبد الملك بن مروان قبل توليه الخلافة أحد كبار فقهاء المدينة السبعة، وهو في ذلك يشترك مع رجاء في التكوين العلمي والاهتمام بالدين، وإن كان أصغر منه سِنًّا، وقد نقل الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أن رجاء كان يُحدِّث عن عبد الملك "لغزارة علمه"، ما يوضح أن العلاقة بينهما نشأت أولا في إطار علمي قبل أن تتحوّل إلى صلة سياسية وثيقة، وبذلك واصل رجاء دوره في الدولة الأموية كما كان في عهد معاوية، جامعا بين موقع العالِم والمستشار، في زمن كانت فيه حدود الدين والسياسة والعلم متداخلة بصورة طبيعية لا افتعال فيها.

وفي خضمّ الصراع الطويل بين الأمويين والزبيريين، اضطلع رجاء بن حيوة بدور الوسيط السياسي والدبلوماسي، مستثمرا مكانته العلمية وثقة الأطراف المتنازعة به، فقد اشتد النزاع بين عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب من جهة، وعبد الملك بن مروان من جهة أخرى، إذ سعى الزبيريون إلى بسط نفوذهم على الشام ومصر، بينما كان عبد الملك يعمل على توحيد الدولة تحت رايته، وفي ظل هذه المواجهات التي امتدت قرابة عشر سنوات، برز رجاء صوتا عاقلا يسعى لتقريب وجهات النظر واحتواء الفتنة.

كلّف عبد الملك بن مروان رجاءً بمهمة حساسة تمثّلت في التوجه إلى زُفر بن الحارث الكلابي، أحد كبار التابعين والقادة الميدانيين المؤيدين لمصعب بن الزبير في العراق، ودعوته إلى الصلح والانضمام إلى صفوف الأمويين، وقد أدّى رجاء مهمته بمهارة ولباقة، مستفيدا من سُمعته الطيبة واعتداله، ليغدو بذلك أحد أبرز وجوه الدبلوماسية السياسية في الدولة الأموية الناشئة.

من أبرز إنجازات رجاء بن حيوة الكندي وأخلدها في التاريخ الإسلامي إشرافه على بناء قبة الصخرة في المسجد الأقصى المبارك، وهو المشروع الذي كلّفه به الخليفة عبد الملك بن مروان ليكون رمزا حضاريا ودينيا للدولة الأموية في قلب بيت المقدس، وكما يذكر شمس الدين المنهاجي في كتابه "إتحاف الأخصّا بفضائل المسجد الأقصى" فقد خصّص له الخليفة أطنانا من الذهب لتغطية نفقات البناء، فتابع رجاء المشروع بدقة وإخلاص طوال ست سنوات متواصلة (66–72هـ/685–691م)، حتى اكتمل هذا الصرح الفريد الذي ما زال يزيّن سماء القدس حتى اليوم.

مصدر الصورة من أبرز إنجازات رجاء بن حيوة الكندي وأخلدها في التاريخ الإسلامي إشرافه على بناء قبة الصخرة في المسجد الأقصى المبارك (الجزيرة)

وعندما انتهى العمل وتبقى من أموال المشروع مئة ألف دينار ذهبية، كتب رجاء إلى عبد الملك يخبره بالفائض، فأمره الخليفة أن يأخذ هو ومعاونه يزيد بن سلام المبلغ مكافأة لجهودهما، غير أنهما رفضا قائلين: "نحن أولى أن نزيد من حُلي نسائنا فضلا عن أموالنا"، فأُعجب عبد الملك بورعهما ونزاهتهما، وأمر بصهر الذهب المتبقي وتذهيب قبة الصخرة به، في مشهدٍ يعكس أمانة رجاء وإخلاصه للمال العام.

وقد أكسبه هذا الموقف ثقة الخليفة المطلقة، فعهد إليه بإدارة بيت المال وتولية شؤون المالية العامة للدولة، كما أسند إليه مهمة تربية ابنه سليمان بن عبد الملك ليغرس فيه قيم العلم والتقوى، ثم أرسله مستشارا لأخيه بِشر بن مروان حين تولى ولاية العراق، وجعل له مكانة رفيعة بين العلماء وأهل الرأي هناك، كما استُشير في شؤون مصر عندما تولى عبد العزيز بن مروان ولايتها، فكان رأيه مسموعا في أهم القرارات، وهو ما يرصده ابن عبد الحكم المصري في "سيرة عمر بن عبد العزيز".

ومن مواقفه الدالة على حكمته واعتداله أنه نصح عبد الملك بعدم إعدام المشاركين في ثورة ابن الأشعث، وهي من أخطر الانتفاضات التي شهدها العراق ضد الحكم الأموي، فرجّح الخليفة كفة العفو وأخذ بمشورته.

إعلان

وهكذا غدت مكانة رجاء رفيعة لدى أبناء عبد الملك بعد أبيهم، فاعتمدوه وزيرا ومستشارا ومشرفا على وُلاة الدولة وأبناء الأسرة الحاكمة، جامعا بين العلم والسياسة والإدارة في شخصية واحدة تُمثِّل نموذج "العالِم المؤتمن" في تاريخ الإسلام.

وفي عهد الوليد بن عبد الملك (86–96هـ) حظي رجاء بن حيوة بمكانة مرموقة ضمن مستشاري البلاط، إذ كان الوليد يعتمد على رأيه في القضايا الكبرى، لما اشتهر به من علم واعتدال ودهاء سياسي وخبرة برزت في سابق العهود، غير أن نفوذه بلغ ذروته في عهد أخيه الخليفة سليمان بن عبد الملك (96–99هـ)، الذي تربّى على يديه ونهل من علمه منذ صغره، فغدا شيخه ومعلّمه ومرشده في أمور الحكم والسياسة.

وقد وصف اليعقوبي في تاريخه مكانة رجاء بقوله: "كان رجاء بن حيوة غالبا على سليمان بن عبد الملك"، فيما قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: "كان وزيرا لسليمان بن عبد الملك"، ووصفه أيضا بأنه "الإمام القدوة، والوزير العادل".

وبينما تولّى مهام الوزارة والإشراف على سياسة الدولة، ظلّ رجاء محافظا على استقلال رأيه وعدالته، يقدّم المشورة التي يراها أوفق للمصلحة العامة دون اعتبارٍ للخصومات الشخصية، فقد نُقل أنه كان بينه وبين الفقيه عبد الله بن موهب عداوة قديمة، ومع ذلك زكّاه لتولّي القضاء لما رأى فيه من كفاءة وصلاح، ويذكر الفسوي في "المعرفة والتاريخ" أن رجاء كان يقول: "ولو خُيِّرت بين أن أُحمل إلى حُفرتي (قبري) وبين ما وُلِّي ابن موهب لاخترت أن أُحمل إلى حُفرتي. قال (سائله): إن الناس يزعمون أنك الذي أشرت به. قال: صدقوا، إني إنما نظرتُ للعامة ولم أنظر له".

قمة النفوذ وتحريك دفة الدولة الأموية

هذا الموقف يلخّص سلوك رجاء بن حيوة في الحكم، فقد كان يرى أن خدمة الناس والعدل بينهم مُقدَّمة على أي اعتبار شخصي، وأن صلاح الأمة أسمى من نزعات الأفراد وأهوائهم، وهو ما جعله رمزا للعالِم المستشار الذي جمع بين التقوى والحكمة والحنكة السياسية في آنٍ واحد.

مصدر الصورة صورة بانورامية نهارية للجامع الأموي الكبير في دمشق، سوريا في 19 أغسطس/آب 2017 (وكالات)

بلغ رجاء بن حيوة ذروة نفوذه السياسي والفكري في أواخر عهد سليمان بن عبد الملك، إذ كان الخليفة يعتمد على مشورته في أدق شؤون الدولة، ولا يكاد يُصدر قرارا إلا بعد أن يعرضه عليه، وقد امتد أثر رجاء حتى اللحظات الأخيرة من حياة سليمان، حين كان يبحث عمّن يستخلفه على الدولة الأموية، فاستشاره في الأمر، فأشار عليه رجاء أن يولي الخلافة لأتقى الناس وأصدقهم أمانة من بني أمية، وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان ابن عمّه، مفضّلا إياه على إخوة سليمان من أمثال يزيد وهشام وسعيد ومسلمة، ويذكر ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز أن رجاء: "أشار عليه بعُمر (بن عبد العزيز)، وسدّدَ له رأيه فيه، فوافق ذلك رأي سُليمان، وقال لأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب".

كتب سليمان وصيته بخلافة عمر وختمها، ثم سلّمها إلى رجاء ليحفظها لديه، واستدعى أهل بيته وإخوته فبايعوا على كتاب مختوم لم يعرفوا مضمونه، وبعد وفاة سليمان تولّى رجاء تنفيذ الوصية في مشهد حاسم، إذ دعا الناس إلى المسجد وأعلن البيعة، ثم فضّ الختم وكشف عن اسم الخليفة الجديد، فكانت المفاجأة باستخلاف عمر بن عبد العزيز.

وقد كانت تجمع رجاء بعمر قبل الخلافة علاقة وثيقة من الصداقة والزهد والعبادة، كما يذكر المؤرخون أنهم اشتركوا في النسك والتقوى، ولهذا لما تولّى عمر الحكم جعله في مقدمة مستشاريه، وأسند إليه رئاسة ديوان الرسائل، معتمدا على بصيرته وحكمته في إدارة شؤون الدولة، حتى أصبح رجاء أحد أهم أركان الحكم في العهد الأموي الإصلاحي.

كان عمر بن عبد العزيز يكنّ لرجاء بن حيوة تقديرا بالغا ومكانة رفيعة، إذ رآه مثال العالِم الصادق والمستشار الأمين، فقرّبه منه وجعله من خاصته في الحكم والمشورة، وقد رُويت مواقف عدّة تجسّد عمق هذه العلاقة، من أشهرها ما رواه المؤرخون أن رجاء بات ليلة عند عمر، فمال السراج إلى الانطفاء، فقام رجاء ليُصلحه، فأقسم عليه عمر أن يجلس، ثم نهض بنفسه فأصلحه، وقال له بعد أن عاد إلى مجلسه: "قمتُ وأنا عمر ورجعتُ وأنا عمر"، في إشارة إلى تواضعه ومساواته للناس رغم مكانته أميرا للمؤمنين.

وقد عبّرت هذه الصداقة المميزة بين رجاء وخلفاء البيت المرواني -من عبد الملك بن مروان إلى الوليد وسليمان ثم عمر بن عبد العزيز- عن الثقة العميقة التي حظي بها عبر عقود من العمل السياسي والإداري، ولهذا وصفه المؤرخون بأنه "زاهد بني أمية والحاكم بأمرهم"، بينما قال عنه ابن كثير إنه كان "وزير صدق لخلفاء بني أمية"، وهي أوصاف تعكس حقيقة موقعه الفريد في تاريخ الدولة الأموية، حيث جمع بين العلم والزهد والسياسة في توازن نادر قلَّ أن يجتمع في رجلٍ من رجال ذلك العصر.

الانزواء والنهاية

وبمرور الوقت ومع تغيّر الأجيال داخل البيت الأموي، بدأ بعض الخلفاء المتأخرين ينقمون على رجاء بن حيوة لصلته الوثيقة بعصر الإصلاح الذي مَثَّله عمر بن عبد العزيز، وبما عُرف عنه من استقلال في الرأي وابتعاده عن مجاراة السلطة، وقد بلغ هذا الجفاء ذروته في عهد يزيد بن عبد الملك (101–105هـ/719–723م)، الذي نظر إلى رجاء بريبة بعد مقتل ابن عمه عمر بن عبد العزيز، وهو الحدث الذي تُرجِّح المصادر أنه حدث بالسُّم سنة 101هـ.

إعلان

يقول المؤرخ والحافظ ابن الجوزي واصفا سياسة رجاء في تلك المرحلة: "كان يصحبُ خلفاء بني أمية، ويأمرهم بالمعروف، فلما مات عُمر بن عبد العزيز انقطع عن صحبتهم"، فيما يؤكد الذهبي المعنى ذاته بقوله: "كان رجاء بن حيوة كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك وعُمر بن عبد العزيز، وأجرى الله على يديه الخيرات، ثم إنه بعد ذلك أُخِّر، فأقبل على شأنه".

وهكذا اعتزل رجاء السياسة العامة وانصرف إلى شؤونه الخاصة، فكرّس ما تبقّى من عمره للعلم والتعليم والوعظ في بيت المقدس، حيث ظل حتى وفاته سنة 112هـ/730م من أبرز علماء الشام وفلسطين وأكثرهم تأثيرا في الناس.

ومع أنه ابتعد عن دوائر الحكم في عقده الأخير، فإن أثره السياسي والإداري ظلّ راسخا في بنية الدولة الأموية التي أسهم في صياغتها على مدى عقود، ويمكن القول إن رجاء بن حيوة كان بحقّ أحد أبرز مهندسي "الدولة العميقة" في العهد الأموي، إذ وجّه سياساتها بحكمة واعتدال، ولا غرو أن غيابه ترك فراغا كبيرا أسهم في تراجع تماسك الدولة، التي ما لبثت أن سقطت بعد نحو عشرين عاما من وفاته سنة 132هـ/750م.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا