آخر الأخبار

ماذا تعرف عن الرجل الذي فتح الباب لزمن ترامب؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

لا يعرف معظمنا عن اسم ديك تشيني في العالم العربي سوى فترته نائبا للرئيس الأميركي جورج بوش الابن ، ودعمه لغزو كل من أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003، وعمله مع فريق بوش الشهير الذي تضمَّن دونالد رمسفيلد و كوندوليزا رايس و كولِن باول .

غير أن تشيني، على عكس هؤلاء، له مسيرة طويلة وضاربة بجذورها في قلب السياسة الداخلية الأميركية، ولطالما كان له مشروعه الذي يُقال إنه حرَّك البيت الأبيض فعليا أثناء سنوات بوش الابن، حيث وُصِف ذات مرة بأنه أقوى نائب رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، وأن عمله مع الرئيس قليل الخبرة، سمح له بتمرير مشروعه السياسي الخاص.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 هل ينقلب المسيحيون الإنجيليون في أميركا ضد إسرائيل؟
* list 2 of 2 نايف بن نهار يكتب: هل تحتاج أميركا إلى استقلال ثان؟ end of list

منذ سبعينيات القرن الماضي، تبلورت في ذهن تشيني فكرة مركزية لم يَحِد عنها، وهي أن البيت الأبيض نُقطة التقاء القوة التنفيذية للدولة الأميركية في الداخل، وقراراتها الحاسمة لرعاية النظام الدولي وحلفاء واشنطن في الخارج.

وكي تحافظ الولايات المتحدة على دورها ومصالحها العالمية، وكفاءتها كدولة داخل البلاد في الوقت ذاته، ينبغي أن تكون للبيت الأبيض السلطات التنفيذية الكاملة دون قيود، وهو مشروع عُرِف باسم "نظرية السلطة التنفيذية المُوحَّدة"، التي تتعارض توجهاتها باستمرار مع تأويلات أخرى للدستور الأميركي، تحفظ للمؤسسة الرقابية متمثلة في الكونغرس، دورها في كبح تجاوزات الرئاسة.

لسوء حظ تشيني، فإنه دخل عالم السياسة في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، حين سيطرت فضيحة ووترغيت ومُستنقع حرب فيتنام على الرأي العام والخيال السياسي الأميركي، ودفعت بجيل كامل من السياسيين والمُشرِّعين إلى السعي لتحجيم سلطات الرئاسة التي أساء الرئيس نيكسون استغلالها حتى استقال في أغسطس/آب 1974.

لم يَنس تشيني ما شهده في ذلك اليوم من عام 1974، حين كان في مُستَهَل مسيرته في البيت الأبيض، إذ رأى بأم عينيه موازين القوى داخل الدولة تميل للكونغرس على حساب الرئيس، وهو يوم سيوجه مسيرته السياسية للعمل على أن يستعيد البيت الأبيض هيبته، وتوسيع صلاحياته بصورة لم تعرفها الولايات المتحدة في تاريخها. ولكن في اللحظة التي تُوِّجَت فيها مسيرته بتحقيق مشروعه التنفيذي، كان تشيني قد فتح الباب دون أن يدري لمفاجأة لم يتوقَّعها.

إعلان

وحتى يتجلى لنا الأمر فعلينا أن نعود إلى تاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 1974، داخل الكابيتول كما يُعرَف؛ مقر الكونغرس الأميركي. حيث القاعة مُكتظة بالصحفيين، وصوت التقاط الصور لا يتوقَّف. في المقاعد الأمامية، يجلس أعضاء اللجنة القضائية بالكونغرس مُتأهِّبين لجلسة الاستجواب. العالم على موعد مع مشهد لم يحدث منذ 112 عاما، حين حضر الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن بنفسه كي يُستَجوَب أمام اللجنة ذاتها.

عند مدخل القاعة، يظهر الرئيس الأميركي جيرالد فورد حاملا قُبَّعته، خاليًا من أي هيبة توحي بأنه رئيس البلاد، وعلى مسافة ليست ببعيدة يقف ديك تشيني، الشاب ونائب مساعد الرئيس الذي سيصبح رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض في غضون عام.

موضوع الاستجواب هو العفو الذي منحه فورد للرئيس السابق ريتشارد نيكسون بعد شهر واحد فقط من استقالته على خلفية فضيحة ووترغيت، وهي الاستقالة التي جلبت فورد، نائب نيكسون، إلى الرئاسة في أغسطس/آب 1974.

كان فورد الرئيسَ الوحيد الذي وصل إلى السلطة دون أن يُنتخب مباشرة من الشعب الأميركي رئيسا أو نائبا للرئيس قبلها، إذ كان نيكسون قد رشَّحه بديلا لنائبه المُنتخب سبيرو أغنو بعد استقالة الأخير عام 1973، وكان الفضل للكونغرس في اعتماد تعيين فورد نائبا، وهو ما فتح له الباب إلى البيت الأبيض بعد عام واحد فقط.

دون أن يكون الناخب الأميركي قد رأى اسمه من قبل في بطاقة اقتراع رئاسية، ومدينا ببعض الفضل للكونغرس في طريقه القصير إلى الرئاسة، لربما استشعر فورد خَلَلا في موازين العلاقة بينه وبين الكونغرس في تلك الفترة، على عكس رؤساء سابقين كُثُر. أضف إلى ذلك أن الرجل أتى بعد ووترغيت والرأي العام كله مُتحفِّز للبيت الأبيض وسلطاته، التي حاول نيكسون ممارستها بصورة شبه مُطلقة، ما أفرز رغبة في تقليصها.

جلس فورد في المقاعد الأدنى المُخصَّصة للمُستَجوَبين أمام أعضاء اللجنة، وأخذ يُعدِّد تسويغاته للعفو عن نيكسون، السياسية والقانونية على حد سواء. سرى العفو، لكن اللجنة أمرت فورد بألا يُصدِر أي مراسيم عفو أخرى، أما حُجَج فورد فلم تكُن مُقنِعة للرأي العام الأميركي، وساهمت في خسارته الانتخابات الرئاسية عام 1976 أمام الديمقراطي جيمي كارتر .

غير أن النتيجة الأبعد والأعمق لتلك الليلة لم تكُن تراجُعَ فرص انتخاب فورد، بل الأثر الذي تركته في نفس تشيني، المسؤول ذي الأعوام الثلاثة والثلاثين، الذي جلس يراقب من بعيد، مُتملمِلا من تضاؤل هيبة الرئاسة الأميركية، وما اعتبره اختلالا في الموازين بينها وبين الكونغرس.

في وقت التف فيه الرأي العام والكونغرس حول مهمة تهذيب السلطات التنفيذية للرئاسة، كان تشيني يسبح عكس التيار، ويرى أن السلطة التنفيذية حصرية للبيت الأبيض والرئيس، ولا يحق لأحد أن يُنازعه فيها، وهي معركة سيُكرِّس لها مسيرته السياسية الطويلة من الآن فصاعدا. لكن قبل ذلك من المهم فهم الجذور التاريخية لمسألة صلاحيات الرئاسة.

الرئاسة الإمبراطورية

"يُمكننا أن نتناقش حيال مصدر السلطات، لكن أن نغل يدي الرئيس ترومان في مواجهة دولة شمولية قادرة على الفعل الناجز أمر مختلف. إن ستالين بوسعه أن يوجه لنا ضربة قاضية في أي وقت، لذا فإن زمن مراسيم الحرب المُنمَّقة قد انتهى"، هذا ما قاله السيناتور هيوبرت همفري، الذي أصبح نائبا للرئيس ليندون جونسون في ذروة حرب فيتنام.

إعلان

في عام 1973، نشر المؤرخ الأميركي آرثر شلِسينغر كتاب "الرئاسة الإمبراطورية" (The Imperial Presidency)، كي يُشرِّح ظاهرة تمدُّد السلطات التنفيذية التي يُمارسها رؤساء الولايات المتحدة منذ استقلال البلاد قبل حوالي قرنيْن، وقال إن السياسة الخارجية كانت عادة مُسوِّغا لتوسيع نطاق ممارسة السلطات، التي طالما وازنها الكونغرس بضوابط وتوازنات في عصور سابقة، إذ إن الانخراط في حروب وصراعات خارج حدود الولايات المتحدة، دفع البيت الأبيض لمنح نفسه صلاحيات إضافية باسم مواجهة الأعداء الخارجيين للبلاد.

بدأت تلك الطفرة التنفيذية مع الرئيس هاري ترومان في مُستهل الحرب الباردة، حين تصدّرت واشنطن لأول مرة صراعا على مستوى عالمي في مواجهة الاتحاد السوفياتي ، وكانت سياسات ترومان فيما يتعلَّق بالأمن القومي مثيرة للجدل بالفعل في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، لكن الديمقراطيين قالوا حينها إنها ضرورية، ودعموا جهود ترومان في تدشين مؤسسات مركزية مُختصة بالأمن القومي ولا تخضع إلا للرئيس، مثل وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA).

أخذت تظهر مؤسسات استخبارية وأمنية بصلاحيات ضخمة في تلك الفترة، دون أن تخضع لأطر قانونية ودستورية كافية، ومن ثمَّ صار البيت الأبيض مظلة تُمارَس باسمها وباسم الحرب على الشيوعية قرارات مثل التجسُّس في الداخل والخارج، وإخفاء تقارير مجريات الحروب التي شاركت فيها واشنطن عن الرأي العام، حتى وصلت تلك "الرئاسة الإمبراطورية" إلى أقصى مدى مُمكِن مع حرب فيتنام ورئاسة نيكسون.

على خلفية الحرب الأكثر إثارة للجدل في تاريخ البلاد حتى حينه، انقسم المجتمع إلى مُوالين للحرب ومعارضين من الطلبة والشباب والنشطاء والصحفيين، الذين مثَّلوا جيلا جديدا رفض الرئاسة الإمبراطورية، وبدأ يتساءل عن حدود السلطة التي يُمارسها البيت الأبيض، المؤسسة التي كانت تحتفي بتاريخها الدستوري في مواجهة "الاستبداد السوفياتي" كما يُفترض، وكان سقوط نيكسون إعلان انتصار ولو جزئي حققه هذا الجيل، لكنه سقوط تابعه تشيني الشاب بقلق بالغ.

مصدر الصورة وُصِف ديك تشيني ذات مرة بأنه أقوى نائب رئيس في تاريخ الولايات المتحدة (رويترز)

على مدار السبعينيات، سجّل الكونغرس عددا من النقاط في معركة تقليص صلاحيات الرئاسة، أهمها قانون صلاحيات الحرب لعام 1973، الذي منع الرئيس من الانفراد بقرار إرسال قوات أميركية خارج البلاد من أجل مجهود حربي طويل الأمد دون موافقة الكونغرس، أو دون هجوم صريح على الولايات المتحدة أو على أراضيها أو جيشها.

كان ذلك يعني أن سلطات الرئيس بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، التي مورست لإرسال مئات الآلاف إلى فيتنام على مدار سنوات، قد قُيّدت إلى حد كبير، وهو قرار تبناه الحزب الديمقراطي ودعمه المحاربون القدامى الذين رأوا ويلات الحرب بأنفسهم.

بعد 5 سنوات، مرّر الكونغرس قانون الأخلاق في الحكومة (EIGA) لعام 1978، الذي منح السلطة التشريعية حق تعيين وكلاء لمراقبة السلطة التنفيذية لضمان عدم إساءة استغلالها من كبار مسؤولي البيت الأبيض بمن فيهم الرئيس نفسه، ومرَّر أيضا قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية (FISA) لعام 1978، واضعا القيود على إمكانية ممارسة أعمال التجسس داخل الولايات المتحدة.

كانت كل تلك القيود هُراءً في نظر تشيني، الذي انتُخِب نائبا بالكونغرس بين عامي 1979-1989، وعانى من هيمنة الديمقراطيين عليه طيلة رئاسة الجمهوري رونالد ريغان في الثمانينيات.

للمفارقة، حين صعد بيل كلينتون الديمقراطي إلى الرئاسة، تحوَّلت الأغلبية في الكونغرس إلى الحزب الجمهوري ، ومن ثمَّ استمرت رغبة كلينتون في الالتفاف على الكونغرس، وهو ما يعتبره جِد شاغرمان، أستاذ القانون والمؤرخ بجامعة بوسطن، "استمرارا لمعركة الرئاسة مع أجهزة الدولة الإدارية" التي بدأت منذ الثمانينيات، إذ أصرَّ التنفيذيون على أن أجهزة الدولة وتصرُّف الرئيس فيها لا يجب أن يخضع للرقابة التشريعية.

إعلان

طُبق قانون الأخلاق في الحكومة مرة أخيرة عام 1999، حين استُدعي في مواجهة الرئيس بيل كلينتون، قبل أن تنتهي صلاحية القانون في العام نفسه دونما تجديد، وتآكلت قيود الرئاسة بالتدريج تحت إدارات ريغان وبوش الأب وكلينتون، الذين قالوا إنها تُستخدم لأغراض حزبية وسياسية بحسب الأغلبية في الكونغرس لا أكثر، فالكونغرس الجمهوري يستخدمها للتضييق على الرئيس إن كان ديمقراطيا، والعكس صحيح.

كان هذا النقاش جاريا بالتزامن مع قُرب صعود إدارة جورج بوش الابن ونائبه تشيني عام 2000، وكان جاريا أيضا داخل أروقة القضاء وفي عالم القانون، التي ظهر فيها جيل جديد من القضاة وأساتذة القانون منذ الثمانينيات، يرون في مركزية الكونغرس لمراقبة أداء الدولة تناقضا مع روح الدستور الأميركي .

مصدر الصورة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن (رويترز)

نظرية السلطة التنفيذية الموحدة

"كان الدرس الذي تعلمه معظم الناس في أميركا بسبب ووترغيت هو أن السلطة الرئاسية يُمكن أن تكون خطيرة، أما الدرس الذي تعلمه المحامون الجمهوريون فكان أن الضوابط والتوازنات (Checks and Balances) آلية خطيرة عليهم" (بحسب أستاذ القانون والمؤرخ بجامعة بوسطن، جِد شاغرمان).

في عام 1933، وبعد 4 أعوام من الكساد الكبير، الأزمة الاقتصادية الأكبر من نوعها في القرن الماضي، وصل فرانكلين روزفلت إلى الرئاسة ببرنامج ضخم لتوسيع الإنفاق الحكومي وتأسيس هيئات فيدرالية تُعالج آثار الكساد وأسبابه.

وفي تنفيذ برنامجه الذي عُرف بالصفقة الجديدة (New Deal)، سعى روزفلت إلى امتلاك الصلاحيات الكاملة لتمرير سياساته، لكنه اصطدم برئيس لجنة التجارة الفيدرالية، ويليام هامفري، صاحب الآراء اليمينية المتشددة في الاقتصاد، ومن ثمَّ قرَّر إقالته.

توفي هامفري بعد أشهر، لكن محاميه رفع قضية كي تحصل أسرته على راتب الأشهر التي عمل فيها بعد الإقالة، وتحوّلت القضية إلى نقطة فارقة في تاريخ موقع السلطة التنفيذية من الدولة الأميركية: هل يحِق للرئيس إقالة أي موظف فيدرالي فقط لأنه يقع داخل نطاق سلطاته التنفيذية، أم أن الإقالة مُقيدة بوقائع ارتكب فيها الموظف أخطاء أو فسادا؟ هل الهيئات الفيدرالية كلها تنفيذية حصرا، أم أن بعضها يتضمن مهام قضائية وتشريعية، ومن ثمَّ لا يحق للرئاسة التدخّل فيها؟

هيمنت تلك الأسئلة على السِجال الذي فتحته القضية، وفي النهاية حكمت المحكمة العليا لصالح هامفري عام 1935، وأصبحت القضية حُجة على كل من قالوا بأن الرئاسة الأميركية لديها سلطات مُطلقة تجاه أجهزة الدولة، وقد عزّز من تلك الرؤية قضية شركة يانغْزتاون المرفوعة على وزير التجارة أثناء رئاسة ترومان عام 1952، التي حكمت بأن قرار ترومان وضع يد الدولة على مصانع الصلب التابعة للشركة أثناء الحرب الكورية ، لا يُمكن تسويغه بحالة الحرب، ومن ثمَّ قُيّدت صلاحيات الرئاسة مرة أخرى.

بدأت تشهد تلك القيود والتحفظات على السلطة الرئاسية موجة مُضادة في الثمانينيات، مع بروز نخبة قضائية وقانونية محافظة رأت أن الكونغرس تمادى في تقويض سلطات الرئاسة بعد ووترغيت، ومن ثمَّ تبلور ما عُرف بالجمعية الفيدرالية (The Federalist Society)، وهي شبكة ومنظمة مجتمع مدني بدأت تجتذب دارسي القانون أصحاب الرؤى المحافظة، لموازنة الهيمنة الليبرالية على دراسة القانون في الولايات المتحدة، ولاستعادة التأويل التقليدي للمادة الثانية من الدستور، التي تمنح الرئيس تصرّفا حصريا في السلطة التنفيذية وفقا لتأويل أنصار الجمعية.

على رأس نخبة الجمعية الفيدرالية، كان أستاذ القانون ستيفن كالابريسي والقاضي صامويل أليتو والقاضي أنتونين سكاليا، الذين طوّروا نظرية عُرفت باسم "نظرية السلطة التنفيذية الموحدة" (UET)، وقالت النظرية إن أجهزة الدولة بأسرها تقع في المقام الأول داخل نطاق السلطة التنفيذية، ولهذا فإنها تخضع حصرا لرئيس البلاد.

وقد انشغلت الجمعية وأنصارها بتثبيت أركان السلطة التنفيذية، واستعادة هيبتها، وتحقيق توازن بينها وبين الكونغرس، الذي رأوا أن رقابته على الدولة تجاوزت الحدود التي أرادها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، لكن النظرية اكتسبت أبعادا جديدة مع صعود بوش الابن ونائبه تشيني عام 2000.

مرة أخرى، كانت الحرب هنا هي الحجة الأساسية التي سوّغت اللجوء إلى سلطات استثنائية، ربما لم تعرفها الولايات المتحدة في تاريخها، وكان ذلك لطبيعة العدو الذي واجهته البلاد حينها، وهو ليس دولة مثل كوريا الشمالية أو أيديولوجيا مثل الشيوعية، بل تُهمة يُمكن أن تُلصَق بأي شخص ومع أي شبهة.

إعلان

لقد كانت الحرب هذه المرة على الإرهاب، وهي كلمة تعذّر تعريفها بالكامل قانونيا، ومن ثمَّ تُرِك للبيت الأبيض أن يُقرر من هو الإرهابي، وأن يلاحقه بأي وسيلة رآها مُلائمة.

من هيبة الرئاسة إلى قبضة الرئاسة

"إنني أؤمن بوضوح بأهمية وجود رئاسة قوية.. وأعتقد أن الكونغرس قد تغوّل على سلطات الرئيس ومسؤولياته عدة مرات في السابق، وعادة ما فعل ذلك ردًّا على أحداث مثل حرب فيتنام أو فضيحة ووترغيت".

بواسطة ديك تشيني، يونيو/حزيران 1996

لم تكن هناك لحظة مواتية لتشيني أكثر من الحرب على الإرهاب، كي يفعل ما أراد فعله منذ عام 1974، وهو تعديل طبيعة السلطة التنفيذية بشكل دائم كي تمنح البيت الأبيض سلطاتٍ لا تتيح له فقط أن يكون مركز النظام السياسي الأميركي في الداخل، بل وأن يُمارس مهام "حماية الوطن" وما تتطلبه في أي مكان في العالم دون قيود.

ورغم تحفّظ الكونغرس على منح الرئاسة صلاحيات موسّعة بعد أحداث 11 سبتمبر /أيلول 2001، فإن تشيني عزم على المضي قدما بدون انتظار موافقة الكونغرس.

وجد تشيني حلفاء له من الجمعية الفيدرالية، مثل المحامي تيموثي فلانيغان وأستاذ القانون جون يو، الذي يُعَد واحدا من عرّابي شرعية اعتقال المشتبه بهم في سجن غوانتانامو واستخدام وسائل متنوّعة في تعذيبهم بوصفها "وسائل للاستجواب المُعزَّز". وقد عمل الفريق القانوني على صياغة صلاحيات الرئاسة الاستثنائية الجديدة دون الالتفات إلى العراقيل القانونية، بما فيها التجسس والترحيل ومهاجمة أي بلد أو جهة يعتبرها خطرا على البلاد، سواء في الداخل أو الخارج.

بالإضافة إلى هؤلاء، عمل المحامي ديفيد أدينغتون، زميل تشيني القديم من رئاسة بوش الأب، في الفريق القانوني الجديد. وكان أدينغتون قد صاغ مع تشيني عام 1987 "تقرير الأقلية" دفاعا عن الرئيس ريغان بوجه الكونغرس على خلفية قضية إيران-كونترا، مُعتبرين أن ريغان بوصفه القائد الأعلى يحق له رعاية أي صفقة يرى فيها مصالح البلاد.

جرى ما جرى على مدار سنوات الحرب على الإرهاب، وارتكبت السلطات الأميركية جرائم لا حصر لها في العراق وأفغانستان وغوانتانامو وغيرها، نالت كراهية غير مسبوقة للولايات المتحدة في شتى أنحاء العالم، لكن تكريس السلطة الرئاسية الاستثنائية لم يتغيَّر كثيرا، فرغم التراجع عن بعض السياسات في عهد أوباما، مثل إغلاق غوانتانامو، فإن بنية السلطة كانت قد تغيّرت إلى غير رجعة، بل واستخدمها أوباما بنفسه من أجل سياساته وإن كانت مختلفة عن سلفه.

حين وصل ترامب إلى السلطة عام 2016، لربما استشعر أنه وصل في الوقت المناسب لتلقُّف كل تلك الصلاحيات. ولكن ترامب مثَّل طورا ثالثا من نظرية السلطة التنفيذية المُوحّدة، تكاد تجعلها في تماس مع نظريات شمولية وفقا لأستاذة النظرية السياسية بجامعة نيويورك، تامسين شو، التي قارنت صراحة بين أستاذ القانون الألماني كارل شميت ووليام بار الذي عيَّنه ترامب نائبا عاما في رئاسته الأولى.

وبار عضو أيضا في الجمعية الفيدرالية، وقد تحدّث عن سلطة اتخاذ القرار في الرئاسة باعتبارها تتجاوز أي إطار قانوني إذا كانت تلبي مصالح الأمن القومي للبلاد، وأن الرئيس يحق له التصرّف بقرارات نافذة، بل وسرية إن أراد.

يبدو ذلك مجرد امتداد لفلسفة تشيني وقت إدارة بوش، لكن الانقلاب الجذري هنا كان أن ترامب استخدم تلك الصلاحيات والتعريفات من أجل أعداء في الداخل بالأساس، ومع أجهزة الدولة الفيدرالية، وليس من أجل السيطرة عليها مثل تشيني، بل من أجل هز أسسها بالكُلية.

في المشروع اليميني المحافظ، المعروف ب مشروع 2025 ، ثمَّة صدى لمعركة قديمة من أجل نظرية السلطة التنفيذية المُوحّدة، حيث تعهّد المشروع بطلب إلغاء الحُكم في قضية هامفري لعام 1935، لأنه لا يزال الأساس الذي تستند إليه حماية موظفي لجنة التجارة الفيدرالية ومجلس علاقات العمل الوطني ولجنة سلامة المنتجات الاستهلاكية، وهي قيود يراها المشروع، كما يراها فريق ترامب، غير دستورية على حد وصف سارة هاريس، وهي محامية عملت في الفريق.

في هذا المشروع الذي ربطته الكثير من الصحف الأميركية بالرئيس الأميركي ترامب، الذي نفى هذه الصلة، ما من حديث مستفيض عن حرب على الإرهاب عابرة للحدود، بل تعهُّدات بإعادة شباب الولايات المتحدة إلى الوطن، وعدم الانزلاق إلى حروب بلا طائل، وتركيز الأنظار كلها على الأعداء في الداخل من أجل إعادة صياغة الدولة الأميركية.

لقد قطع تشيني نصف الطريق إلى ما يقوم به ترامب بالفعل، رغم أنه مات قبل أيام وهو غير راضٍ عنه. وتشيني في الواقع لم يقطع نصف الطريق لإدارة ترامب بالمعنى القانوني والمؤسسي فحسب، بل وساهم بدوره المركزي مع جورج بوش الابن في ظهور جيل اليمين الراديكالي، الذي أنتجته الحربان الأعلى كُلفة اقتصاديا للبلاد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، أي العراق وأفغانستان.

مصدر الصورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (الفرنسية)

تمرد الكابيتول.. الحرب تعود إلى عقر دارها

"على مدار تاريخ أمتنا الطويل لم يكن هناك شخص هدد جمهوريتنا بقدر ما هددها دونالد ترامب.. وباعتبارنا مواطنين، يتوجب علينا أن نضع بلادنا فوق الانتماءات الحزبية، وأن ندافع عن الدستور. ولهذا السبب فإنني سأصوت لنائبة الرئيس كمالا هاريس".

بواسطة ديك تشيني، مُعلنا موقفه من الانتخابات الرئاسية الأخيرة قبل أسابيع من فوز ترامب.

في 6 يناير/كانون الثاني 2021، وبينما اقتحم مُتمرّدون موالون لترامب مقر الكونغرس الأميركي، جلس تشيني يشاهد مشهدا لم يره من قبل. المبنى الذي طالما حنق على سلطاته المُبالغ فيها، ولطالما أراد تقليص رقابته على البيت الأبيض، مُنتهك على الهواء بصورة فوضوية من قبل أنصار ترامب. لعل تلك اللحظة، التي جاءت متأخرة في حياة الرجل، قد جعلته لأول مرة يتعاطف مع الكابيتول، ويقلق من العبث به، لا دفاعا عنه لذاته، لكن دفاعا عمَّا يمثله كإحدى دعائم الدولة الأميركية التي أخلص لها حتى النهاية.

ما لم يُدركه تشيني أن هذا المشهد لم يكُن مُمكنا لولا الحربان اللتان كان عرَّابا لهما من داخل البيت الأبيض قبل عقديْن بالضبط، ففي اللحظة نفسها، كان العشرات من ضحاياه الذين زجّ بهم في حربي العراق وأفغانستان يتمرّدون على الدولة التي خدعتهم.

وأبرز هؤلاء لاري بروك، الذي دخل بزيه العسكري وخوذته الخضراء الداكنة، ولم يجتهد لإخفاء هويته، حيث حملت خوذته ودروعه عددا من المُلصقات، منها مُلصق لشخصية المُعاقِب من سلسلة "مارفل" الشهيرة، التي أصبحت شعارا لحركة "كيو إينون" (QAnon) اليمينية المتطرفة، ومُلصق لشعار سِرب المقاتلات 706 التابع لسلاح الجو الأميركي.

كان بروك ضابطا في القوات الجوية، وخاض معارك بالطائرات في أفغانستان في مواجهة حركة طالبان ، قبل أن يصبح قائدا ومفتشا للعمليات، ويُشرف على طيّارين آخرين خدموا في العراق، ثم تقاعد عام 2014، بعد حصوله على 6 ميداليات عسكرية. وفي تغريدة له على موقع تويتر (إكس حاليا) أثناء التجهيز لتمرّد الكابيتول، قال بروك إنه يتحرّك ضد أي أعداء للولايات المتحدة، حتى لو كانوا في الداخل، وإنه ملتزم بمبادئ حركة "حُراس القَسم" اليمينية المتطرفة.

لطالما لفتت الانتباه حركاتٌ يمينية جديدة في الولايات المتحدة، بالتزامن مع صعود ترامب الأول إلى الرئاسة عام 2016، لكن الحدث الفارق في دراسة تلك الحركات كان تمرّد الكابيتول، الذي رنّ جرس الإنذار، ودفع عشرات من الصحفيين والباحثين والمؤسسات للتعامل مع الظاهرة بوصفها خطرا على الدولة الأميركية، لا مجرد حركة سياسية متطرفة محدودة الأثر. من بين تلك الحركات، برزت حركة حُراس القسم بسبب شعبيتها بين ضباط الجيش والشرطة، السابقين والحاليين، الذين تُركِّز عليهم الحركة في جهود تجنيد أعضائها.

ولهذا، في يوليو/تموز 2021، ذهب الصحفي الأميركي بموقع "ذا إنترسبت"، مايك غيغليو، إلى أحد تجمُّعات الحركة، كي يُغطي فاعلياتها وخطابها. لم تكُن مفاجأة عقد التجمّع في مبنى تابع لجمعية "المحاربون القدامى للحروب الخارجية"، وهي الجمعية الأعرق والأكبر من نوعها في الولايات المتحدة. وقد تكلَّم أحد الحاضرين ممن خدموا في العراق وأخذ يقُص بطولاته، ثم حضر زعيم الحركة بعدئذ وتحدَّث عن سرقة الانتخابات لصالح بايدن، وكيف يتوجّب على أعضاء الحركة أن يُعدّوا العُدة لمواجهة قادمة مع حركات اليسار.

في مقاله بعنوان "الارتداد العكسي"، يقول غيغليو إن حروب بوش قبل 20 عاما، التي كان يُفترض أن تأخذ المعركة إلى أعداء الولايات المتحدة للقضاء عليهم، قد عادت إلى الوطن فيما يُشبه ردة الفعل العكسية، وإن قطاعا لا بأس به ممن خدموا في حربي العراق وأفغانستان، وتأثروا بمستويات العنف العالية التي مارسوها لسنوات، بالتزامن مع تملمُلهم من الخطاب الرسمي الأميركي وكُفرهم بجدوى الحروب التي ألقوا إليها؛ صاروا في طليعة الحركات اليمينية الجديدة، التي يُعيد الكثير منها تعريف الحزب الجمهوري.

يؤكد على تلك الظاهرة تقرير صدر عن مشروع دراسة التطرف بجامعة جورج واشنطن، تتبّع المشاركين في تمرّد الكابيتول يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، وتوصل إلى أن 118 شخصا من أصل 897 مشاركا كانت لهم خلفيات عسكرية، مُشيرا إلى أن تلك الفئة رغم أنها ليست الغالبة على الحركات اليمينية، فإنها محورية في استخدام ثقافتها العسكرية لتنظيم صفوفهم، وتُشكّل قاعدة أساسية لما بات يُعرف بالإرهاب المحلي في الولايات المتحدة.

"إن العامل الأكبر في الإرهاب المحلي ليس الشعبوية أو الهجرة أو الفقر.. كما نفترض عادة، بل يبدو أنه مرتبط بتبعات الحروب.. ليس فقط بسبب وجود المحاربين القدامى وجنود لا يزالون في الخدمة كأعضاء في تلك الجماعات المتطرفة، بل لسبب أكبر، وهو أن مستوى العنف بأشكاله كافة في مجتمعنا، يقفز في أعقاب الحروب.. شيء ما لدينا يجعلنا جاهزين أكثر للعنف بعد الصراعات المُسلَّحة"، هكذا وصفت الأستاذة بجامعة شيكاغو، كاثلين بيلو، الجيل الجديد من المتطرفين الذي هزَّ الكابيتول وساهم في إعادة ترامب إلى الرئاسة.

حتى نهاية فترة أوباما الأولى، لم تكُن تبعات حربي العراق وأفغانستان قد ظهرت للعيان بهذا الشكل، ولم يكُن ببال أي من سياسيي الحزبين الديمقراطي والجمهوري أن تلك الحروب يُمكن أن تكون لها انعكاسات تقلب الساحة السياسية بشكل جذري. وحين ظهر ترامب لأول مرة، بوصفه وجها جديدا في الحزب الجمهوري يواكب موجة اليمين العالمي، عزف ديك تشيني عن اتخاذ موقف صريح منه عام 2016، وإن أعلن التزامه بدعم المرشح الجمهوري.

بعد تمرّد الكابيتول، استشعر تشيني خطر الحركة التي يُمثلها التيار المؤيد لترامب، ومن ثمَّ أخذ موقف المعارضة الصريحة من حملته عام 2024، ودعم كمالا هاريس في موقف عُدَّ مفاجئا لكثيرين. ولكن تشيني لم يكن يناقض مبادئه في الحقيقة، بل يتمسّك بكونه محافظا مؤسسيا مؤمنا بالدولة الأميركية وتحالفاتها الدولية قبل أي شيء، بعدما رأى مدى استهتار هذا التيار الصاعد بها، بل ورغبة الرئيس في استغلال سلطاته الرئاسية لتقليص التزامات واشنطن بأمن حلفائها وتقويض المؤسسات الأميركية.

غير أن تشيني بنفسه، مع معارضته لترامب، لا يزال الرجلَ الذي أسّس فعليا للأدوات التي يستخدمها الرئيس للالتفاف على البيروقراطية ، كما أنه عرّاب الحرب التي أنتجت جيل الجمهوريين المُعادين للمؤسسة والداعمين له، دون إدراك لعواقب الانخراط في حربيْن بلا هدف واضح لفترة طويلة؛ على النظام السياسي الذي اتخذ القرار ابتداءً، وذلك رغم وجود سابقة تاريخية هي حرب فيتنام الطويلة، التي تاهت أهدافها هي الأخرى في خضم المعارك، وكان لها تأثير هائل على النظام السياسي الأميركي والمجتمع والجيل الذي حارب هناك لسنوات.

إن كان يُقال باستمرار إن ترامب هو أول من أدار ظهره لحلفاء الولايات المتحدة، فإن إدارة بوش، مجددا، هي التي أرست السابقة الأولى، حين مارست الأحادية في أقصى أشكالها تطرُّفا، وغزت العراق ضاربة عرض الحائط بالقواعد الدولية والاعتراضات الواضحة من روسيا والصين وفرنسا وألمانيا.

في تلك اللحظة استشعر العالم بأسره قبضة البيت الأبيض اللامحدودة، وغير الخاضعة لأي قانون، وليس مواطني الولايات المتحدة فحسب. المفارقة هنا هي أن الجنود الذين حملوا على عاتقهم تنفيذ تلك الأوامر الإمبراطورية، كانوا أول من تمرّد عليها.

في أول صفحة من كتاب "الرئاسة الإمبراطورية" لشلِسينغر، يتساءل الكاتب قبل أكثر من نصف قرن وبحروف كبيرة: "كيف وصلت الرئاسة الأميركية إلى ذلك المستنقع؟ ومتى بدأ رؤساؤنا يفكرون أن لديهم سلطة الكذب والتجسس وشن الحروب السرية ومخالفة القانون والعبث بالعملية السياسية وتجاوز الكونغرس؟".

على الأرجح، أن الأسئلة ذاتها ما زالت قائمة، والفضل في ذلك بدرجة كبيرة يعود إلى ديك تشيني الذي رحل عن عالمنا يوم 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، تاركا بصمة وإرثا لن يُمحى بسهولة من النظام السياسي الأميركي، ومُشكّلا جسرا مع بوش الابن، بين الجمهورية المؤسسية لريغان وبوش الأب، وبين جمهورية ترامب المحافظة المعادية للمؤسسية.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا