"نذهب إلى صناديق الاقتراع منذ أكثر من عشرين عاماً ولم نشهد أي تغيير" هكذا حدثتنا رضية، وهي امرأة خمسينية، قبل أيام قليلة من حلول موعد الانتخابات البرلمانية العراقية، وهي سادس انتخابات يشهدها العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003.
تجري الانتخابات في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، يتنافس فيها أكثر من سبعة آلاف مرشح على 329 مقعدا.
تتولى الكتلة صاحبة الأغلبية البرلمانية تشكيل الحكومة، وعادة ما يحصد الشيعة أغلبية المقاعد، إذ تتشكل خريطة مجلس النواب العراقي وفق تقسيمات طائفية وعرقية تعكس التركيبة السكانية للبلاد. ومن المفترض أن تعلن النتائج الأولية للانتخابات بعد مرور 24 ساعة على انتهاء التصويت.
تغطي لافتات الدعاية الانتخابية أغلب شوارع بغداد. إذ لا تخلو أغلب الأحياء السكنية من صور ضخمة للمرشحين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية والطائفية. لكن تختفي كل مظاهر الدعاية حيث تعيش رضية، في مدينة الصدر الشعبية المكتظة شرقي بغداد. ويدل اسم المنطقة على انتمائها، إذ يؤيد معظم سكانها الزعيم الشيعي مقتدى الصدر.
جلست لأتحدث إلى رضية على أريكة صغيرة أمام باب منزلها. وعلى الجدار المتاخم لمنزلها علقت ملصقات تحمل صورة مقتدى الصدر وكتب عليها "مقاطعون". وشاهدنا مثل تلك الملصقات في مختلف أحياء مدينة الصدر.
الزعيم الشيعي صاحب النفوذ الضخم دعا إلى مقاطعة الانتخابات، إذ اتهم العملية الانتخابية بالفساد. لكن امتناع رضية عن التصويت لا يرجع فقط لدعوة الصدر بل لصعوبة الظرف المعيشي. تقول "لدي ثلاثة أبناء في العشرينيات من العمر ولا يملك أي منهم عملا. كيف يمكنهم أن يتزوجوا ويؤسسوا عائلات؟"
ولم تعد رضية تملك ثقة في أي من الحكومات المتعاقبة وتستطرد "دائما ما نرى نفس الوجوه، فلا جديد والمجرب لا يجرب." ثم تذهب لتحدثني عن نقص العديد من الخدمات مثل الانقطاع شبه الدائم للكهرباء ما يدفعهم للاعتماد بشكل مستمر على المولدات المحلية.
ويتبع مقتدى الصدر ملايين المؤيدين في مختلف أنحاء العراق. وكانت الكتلة الصدرية صاحبة الأغلبية البرلمانية في الانتخابات الأخيرة التي جرت في 2021 بواقع ثلاثة وسبعين مقعدا. لكنها انسحبت من مجلس النواب في العام التالي، بعد اعتراضات حادة على آلية تشكيل الحكومة. وتحولت تلك الاعتراضات إلى العنف بعد أن اقتحم أنصار الصدر مبنى البرلمان وحاصروه، واشتبكوا مع قوات الأمن في مواجهات دامية.
منذ ذلك الحين بقي مقتدى الصدر بعيداً عن الحياة البرلمانية. في المدينة التي تحمل اسم عائلته، لاحظنا خلال تجوالنا ما يعانيه السكان من عوز. فالكثير من الطرقات غير معبدة وتغطيها أكوام من القمامة. لكن الأهالي هنا يحملون ولاء مطلقاً لمقتدى الصدر.
"نحن مع السيد في أي شيء يقوله" هكذا يخبرني حسين، وهو تاجر أجهزة كهربائية يعاني من تراجع حاد في حركة البيع والشراء في السوق. وكغيره من سكان المدينة، يقاطع حسين التصويت استجابة لدعوة الصدر. ويرى أن العملية الانتخابية ستعيد إنتاج نفس الحكومة التي يتهمها بالإهمال في رعايتهم وتوفير ما يحتاجون إليه من فرص عمل وخدمات في قطاعي الصحة والتعليم على وجه الخصوص. ويضيف "لم يأت إلينا أي مسؤول ليعرف ماذا نحتاج!"
أرجع مقتدى الصدر مقاطعته للانتخابات إلى عدة أسباب من بينها إصراره على جمع سلاح الفصائل المناوئة له والمدعومة من إيران، ووضعه تحت سيادة الدولة.
في الأيام الأخيرة، قال رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في تصريحات صحفية إن العراق تعهد بوضع كل الأسلحة تحت سيطرة الدولة "لكن ذلك لن يتحقق ما دام هناك تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة في البلاد، تعتبره بعض الفصائل العراقية قوة احتلال".
وأوضح السوداني أن خطة الحكومة لا تزال قائمة لإنهاء وجود التحالف الدولي ضد تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية بحلول سبتمبر/أيلول 2026، مشيراً إلى أن تهديد التنظيم "تراجع بشكل كبير". وكان جمع سلاح جميع الفصائل، بلا استثناء، مطلباً أمريكياً متكرراً للعراق.
وفي ظل وجود الصدر خارج السباق الانتخابي، سيكون الثقل الأكبر للكتلة الشيعية في الانتخابات مع الإطار التنسيقي، وهو تحالف شيعي بعيد عن الصدريين، وتشكلت منه الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني.
في حديث لبي بي سي يرى همام حمودي رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، وأحد قياديي الإطار التنسيقي، أن جمع سلاح الفصائل لا يمكن أن يتم إلا "عندما تستقر المنطقة وتتحول لتوجهات سياسية وليس توجهات طائفية أو عقائدية." وقال إن جمع السلاح "ليس قراراً حكومياً فحسب" موضحاً أن الفصائل تملك تفاهماً مع الحكومة "حرصاً على استقرار العراق".
بلغت نسبة مشاركة الناخبين في الاقتراع الأخير الذي جرى قبل أربع سنوات واحداً وأربعين في المائة وفقاً لمفوضية الانتخابات. لكن تقديرات أخرى تشير إلى أن الأرقام الفعلية كانت أقل من ذلك.
وهناك مخاوف من أن يضعف غياب الصدريين نسبة المشاركة في الانتخابات، إذ سيغيب عن مراكز الاقتراع ملايين الناخبين من أنصار الصدر في وسط وجنوبي العراق.
لكن همام حمودي لا يشعر بالقلق إزاء هذا الأمر. ويقول "دعونا أكثر من مرة لوجود الصدريين لأن حضورهم قوة لنا. وقد يؤثر غيابهم على التوازن الشيعي لكن ليس كثيرا."
بدا همام حمودي واثقاً من فوز الإطار التنسيقي في الانتخابات إذ يقول "النتائج محسومة لصالحنا لأنها انتخابات مكونات والمكون الشيعي يمثل خمسة وستين في المائة."
لكن الإطار التنسيقي لم يتمكن من تشكيل الحكومة في عام 2022 إلا بعد انسحاب الكتلة الصدرية من مجلس النواب العراقي.
هناك من يرى أن تشكيل حكومة لن يكون مهمة سهلة. يقول هادي جلو الكاتب الصحفي إن الولايات المتحدة لا تريد أن ترى الفصائل المسلحة المدعومة من إيران جزءاً من الحكومة المقبلة "وستعرقل أي جهد لتشكيل الحكومة في حال وجدت أن الفصائل المسلحة المناوئة للوجود الأمريكي ستصبح جزءاً من الحكومة."
يضيف جلو أن غياب الصدريين قد يفيد مكونات أخرى في المشهد السياسي، مثل المكون السني. ويوضح أن "هناك فراغات قد تستغل من جانب الكتل السنية، التي تتزاحم مع القوى الشيعية في الجغرافيا، وقد تحصل على المزيد من الزخم السياسي."
لكن بعيداً عن كل التعقيدات السياسية، يظل اهتمام الكثير من العراقيين، مثل رضية، منصبّاً على التمتع بحياة كريمة توفر لهم حاجاتهم الأساسية. لكنهم يشككون في قدرة هذه الانتخابات على خلق واقع يشعرون بالانتماء إليه.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة