آخر الأخبار

وعي الأوروبيين ونهاية السامري في فلسطين

شارك

"اخرس اللعنة عليك، أغلق فمك"، هذه ليست كلمات متناثرة في شارع عربي شعبي بين شابين نزغت بينهما كرة أو مال، بل عبارة مدرب منتخب إيطاليا لكرة القدم "جينارو غاتوزو"، فجّرها غاضبا في وجه لاعبي منتخب إسرائيل، في أثناء مباراة ضمن تصفيات كأس العالم 2026، الأسبوع الماضي.

واللافت أنه بالرغم من "حدة" عبارة المدرب، الذي عبر في مؤتمر صحفي عن "سوء حظهم" في وجودهم مع إسرائيل في مجموعة واحدة، وهي حدة تعد بردا وسلاما مقارنة بحمم الإسرائيليين المصبوبة على رؤوس الناس في قطاع غزة ، فإنها لامست هوى لدى آلاف المشجعين الإيطاليين الحاضرين في الملعب، الذين استبقوا ضربة بداية المباراة بإدارة ظهورهم أثناء عزف النشيد الإسرائيلي، وبرفعهم لافتات في وجه المنتخب الإسرائيلي كتب عليها "توقفوا".

لكن، هل هذا الموقف يعبر عن مجموعة رياضيين غاضبين في مباراة كروية فقط؟

الجواب يأتي من مكان آخر على لسان صاحب مطعم إسباني في مدينة "فيغو" طرد 8 من زبائنه، يتقاسمون طاولة كبيرة، يفترض أنها ستدر مبالغ بالعملة الصعبة على خزينته، وقال لهم بفم ملآن، سجلته كاميرا ترصد تطور المزاج الأوروبي العام من إسرائيل، "أنتم تقتلون فلسطين ، اذهبوا لتناول الطعام في غزة".

كان مشهد الثمانية المطرودين ملحميا بكل معنى الكلمة، ويجسد انهزام سردية إسرائيلية عمرها 77 عاما، فقد غادروا الطاولة الإسبانية، تحت وابل من صرخات الغضب الذي يمتد من عامل تنظيف الشوارع، أظهرته نشاطات واحتجاجات محلية سابقة، وصولا إلى أعلى هرم السلطة التنفيذية ممثلا برئيس الوزراء "بيدرو سانشيز" الذي عبر عن غضبه من "لوحة الدم" الإسرائيلية في غزة، بما يشبه "التأسف" على "عدم امتلاك سلاح نووي" يمكن أن يساعد مدريد في وقف مذبحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القطاع الفلسطيني الذي يخضع لحرب استئصال تحت ضوء الشمس وأمام عدسة الكاميرات.

روح جديدة

إذن، لا يقتصر الأمر على بضعة آلاف في إيطاليا، أو شريحة كبيرة من الإسبان، بل إن بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا وهولندا وبلجيكا، وهي كبريات دول أوروبا، تنبئ حالها، بشوارعها ومظاهراتها، وما تنتجه من دراما، وفي ندواتها العلمية، واحتفالاتها الشعبية، وأنشطتها الرياضية، عن سريان روح جديدة في الموقف الأوروبي الشعبي مما يجري في فلسطين عموما، وفي غزة خصوصا، وفي النظرة إلى إسرائيل.

إعلان

يمكن للمراقب، وهو يرى الرياضيين الأوروبيين، وكثيرا من ساستهم، ومؤسساتهم، وشوارعهم التي تعج بالمظاهرات الغاضبة -منذ عامين- ليس من نتنياهو الذي تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية وكراهية الشعوب فحسب، بل من إسرائيل نفسها التي تشي الأحاديث الجانبية في بعض أوساط الشارع الغربي، بأن فكرة وجودها لم تعد محل اقتناع لدى الإنسان الغربي مقارنة بما كانت عليه الحال قبل سنين قليلة، خصوصا مع هزيمة المؤسسات الإعلامية الغربية التقليدية وروايتها أحادية الجانب للحدث الفلسطيني خصوصا والعربي عموما، في معركة الحقيقة أمام نهر الأخبار والحقائق المتدفق من المصادر الإعلامية المفتوحة، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي.

ما بنته إسرائيل طوال عقود، وصممت له حملات سياسية وعلاقات عامة، وأنفقت في سبيله سيلا من الأموال، لتقول للعالم الغربي إنها "فاكهة" نادرة من التمدن والتحضر، وسط صحراء عربية من التخلف والقتل والإرهاب، يتهاوى اليوم عند أقدام طفل غزي هدّه الجوع وألم الفقد، وفي صدى صرخة أم فقدت زوجا وأولادا، وبقيت وحيدة تقتلها الوحشة في عالم مزدحم حولها.

مجموع مظاهرات شوارع المدن الغربية، وتصريحات ساستهم، ومواقف الأكاديميين والفنانين والرياضيين والنخب العلمية، من آلة القتل الإسرائيلية في فلسطين، تنبئ المراقب عن تخلّق رواية جديدة، لكن أكثر تجذرا ورسوخا، في الوجدان الجمعي الغربي، تنسجها حقائق الدم والنار والحرائق الإسرائيلية في بقعة أرض تسمى غزة، أثبتت، ولو بأثمان باهظة، تفوق الشجاعة على الكثرة، وهيمنة الحقيقة البسيطة على الوهم المصنّع.

ثقب أسود

صحيح أن غزة فقدت بنيانها، وتضررت بمقدار 10% في أعز ما تملك، إنسانها، بحسب إحصاءات اعترف بها قادة إسرائيليون عسكريون، وصحيح أنها حوصرت، وتركت وحيدة في محيطها القريب جغرافيا، والبعيد عنها ضوئيا في جوانب الإعداد والعمل، إلا أنها كانت السبب المباشر والأقوى، في تأسيس وعي عالمي، وبالتحديد غربي، جديد يدرك أن قسمات من يحتل فلسطين، وهيئاتهم ولغتهم وثقافتهم وطبائعهم، لا تنتمي إلى المكان، ولا تشبهه.

وهذا الإدراك في ذاته نتيجة عملية لـ"لثقب الأسود" الذي ابتلع الرصيد الإستراتيجي الإسرائيلي في الغرب، وابتلع معه وعيا مزيفا في العقل الأوروبي صممته أدوات قوة ناعمة، إعلامية وأكاديمية وعلمية، امتلكتها أذرع يهودية مؤيدة لإسرائيل وتحكمت بها ووجهتها.

والأهم، بل وربما الأخطر بالنسبة لإسرائيل، أن هذا الوعي الجمعي الأوروبي الجديد، ليس مقصورا على الفئات العمرية المتوسطة والكبيرة، التي ترى وتحلل وتستنتج الحقائق، وإنما يمتد إلى الجيل الناشئ الذي عبرت عنه، مثلا لا حصرا، "دوريا بورساس" اللاعبة الفرنسية الناشئة قبل أيام قلائل، عندما رفضت مصافحة نظيرتها الإسرائيلية بالرغم من فوز الفرنسية في بطولة أوروبا للجودو، وتركت اليد الإسرائيلية الممتدة إليها معلقة لثوان في الفضاء، في مشهد يتكرر كثيرا في القارة العجوز، ويعبر عن زمن تراجع الصورة الإسرائيلية التي ظن كثير من الضعفاء واليائسين أنها لن تتزعزع.

الأحداث في فلسطين، أثمرت وعيا سياسيا وبعدا أخلاقيا جديدا لدى الأوروبيين، ومنحتهم القدرة على التحرر من أسر رواية النخبة السياسية والإعلامية التقليدية، على الأقل هذا ما تقوله الأرقام التي وثقها المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام (إيبال) وهو يحصي، الشهر الماضي، نحو 42 ألف مظاهرة ونشاط مناصر للقضية الفلسطينية في أكثر من 700 مدينة في 20 دولة أوروبية.

إعلان

إن ما نتابعه من صدى سياسي واجتماعي غربي، للحدث الفلسطيني، يكشف معادلة دقيقة كل متر مربع تكسبه إسرائيل في غزة أو الضفة الغربية المحتلة، تفقد مقابله آلاف الأمتار من مساحات الدعم الأوروبي التقليدي، وكل إنسان فلسطيني تقتله، ينتصب مقابله مئات من الأوروبيين الغاضبين الذين يحملون في عقولهم ووعيهم، ربما، بذور نهاية السامري.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا