في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
باريس- بعد أقل من شهر ونصف الشهر على توليه منصبه، أثار السفير الأميركي تشارلز كوشنر غضب باريس، فقد استدعته وزارة الخارجية الفرنسية اليوم الاثنين عقب انتقاده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحجة "عدم اتخاذ إجراءات كافية ضد معاداة السامية "، في خطوة غير مألوفة على مستوى العلاقات بين باريس و واشنطن .
واتهم والد جاريد كوشنر -صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب – الحكومة الفرنسية بالتقصير في مواجهة ما وصفها بـ"الموجة المتصاعدة لمعاداة السامية" في فرنسا، وربط بين مواقف باريس الناقدة لإسرائيل ومساعيها للاعتراف ب فلسطين كدولة، وبين ازدياد المخاطر على اليهود في فرنسا.
وفي تحرك اعتبره كثيرون بأنه تجاوز صارخ للحدود الدبلوماسية التقليدية، جاء رد الخارجية الفرنسية سريعا وحادا، واصفا تصريحات السفير بـ"غير المقبولة" و"المتعارضة مع الأعراف الدبلوماسية"، فبالنسبة لباريس، لا يتعلق الأمر بنقاش بسيط حول معاداة السامية، بل بالمسّ المباشر بالسيادة الوطنية.
وكتب ممثل الولايات المتحدة لدى فرنسا في رسالته أن يوم 25 أغسطس/آب "يصادف الذكرى الـ81 لتحرير باريس على يد الحلفاء، ونهاية ترحيل اليهود إلى فرنسا، وهو تاريخ أعتبره مناسبا للتعبير لكم عن قلقي العميق إزاء تصاعد معاداة السامية في فرنسا وعدم اتخاذ حكومتكم إجراءات كافية لمكافحتها".
وتحاكي رسالة كوشنر تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في رسالة وجهها إلى إيمانويل ماكرون يوم 17 أغسطس/آب الجاري، هاجم فيها بشدة رئيس قصر الإليزيه ، متهما إياه بـ"تأجيج نار معاداة السامية" بدعوته إلى الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، وردّت الرئاسة الفرنسية آنذاك بأن هذا التحليل "خطأ، وحقير، ولن يمر دون رد".
بدوره، قال تومي بيغوت -نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية- لوسائل إعلام محلية: "نحن متمسكون بتعليقات السفير كوشنر، فهو ممثلنا للحكومة الأميركية في فرنسا، ويقوم بعمل رائع في تعزيز مصالحنا الوطنية من خلال هذا الدور"، ممتنعا عن التعليق بشأن انتهاك رسالة كوشنر القانون الدولي.
ويعتقد بيير لويس ريموند، الأكاديمي والباحث في مجال الشؤون الجيوسياسية، أن تصريحات السفير الأميركي غير مقبولة وأن الدبلوماسية الفرنسية ستبقى ثابتة في موقفها، مشيرا إلى أن "الإعلان عن دولة فلسطينية لا يمثل سوى تتويج لوقوف باريس الدائم إلى جانب حل الدولتين، الذي يعود إلى سياسة الجنرال شارل ديغول ".
وأكد ريموند -في حديثه للجزيرة نت- أن العلاقات الفرنسية الأميركية متوترة وستزيد هذه التصريحات الممنهجة من توترها، لأنها صدرت مباشرة بعد الرسالة التي وجهها نتنياهو إلى ماكرون، "ولذا، سنشهد إصرارا مستمرا من باريس على موقفها حول القضية الفلسطينية أو الملف الأوكراني".
ويأتي هذا الجدل عقب قرار الرئيس الفرنسي إعلان بلاده الاعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، وإثر ذلك، دعت أكثر من 12 دولة غربية، منها كندا وأستراليا، دولا أخرى حول العالم إلى أن تحذو حذوها.
وفي هذا الإطار، يرى السفير الفرنسي السابق في قطر برتراند بيزانسينو أن استدعاء كوشنر أمر طبيعي ومتوقع، قائلا "منذ اللحظة التي صدرت فيها التعليقات -بداية من نتنياهو ثم اللهجة الأكثر حدة من السفير الأميركي في باريس- تبقى الرسالة واحدة، وهي الربط بين الاعتراف بدولة فلسطين والحركات المعادية للسامية في فرنسا وأماكن أخرى".
وأوضح بيزانسينو -في حديثه للجزيرة نت- أن "اعتبار الاعتراف المرتقب بدولة فلسطين هو ما أدى إلى كل هذا يعد انحرافا، لأنه غير منطقي في جوهره، ولكنه مجرد طريقة أخرى لمحاولة الضغط"، مضيفا "يمكننا أن نرى بوضوح مدى سعي الحكومة الإسرائيلية لإبطاء هذه الخطوة، ووقف الديناميكية الحالية التي تقوم بها أوروبا بشكل رئيسي في هذا الاتجاه".
وتابع المتخصص في شؤون الشرق الأوسط "تتبنى الإدارة الأميركية النهج الإسرائيلي، أي الرغبة في ممارسة الضغط والتهديد واللعب على القضايا الحساسة، مع ذلك، من السخافة تماما الربط بين إعلان الاعتراف -وهو الموقف الفرنسي- وحق الشعوب في تقرير مصيرها".
وبالفعل، جاء في رسالة تشارلز كوشنر أيضا أن "التصريحات التي تُشوّه سمعة إسرائيل، والتلميحات بالاعتراف بدولة فلسطينية، تشجع المتطرفين وتثير العنف، وتعرّض الهوية اليهودية في فرنسا للخطر"، وأضاف "اليوم، لم يعد من الممكن المماطلة، إن معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية، انتهى الكلام".
يعد استدعاء السفير أداة دبلوماسية رسمية تستخدمها الدول المضيفة للتعبير عن استيائها، وقد انتقدت وزارة الخارجية الفرنسية هذه التصريحات المثيرة للجدل، لأنها "تتعارض مع القانون الدولي، لا سيما واجب عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وفقا لاتفاقية فيينا لعام 1961".
كما أكدت باريس أنها استدعت السفير الأميركي، لأن تعليقاته "لا تتناسب مع جودة العلاقة بين فرنسا والولايات المتحدة، والثقة التي ينبغي أن تنجم عنها بين الحلفاء".
وعند سؤاله عما إذا كانت تصريحات السفير الأميركي تعد تدخلا واضحا في الشؤون الداخلية لفرنسا، أجاب بيزانسينو "نعم، بالتأكيد. من جهتنا، يمكننا أن نفكر كما نشاء في إدارة ترامب، لكننا لن نرسل بيانا رسميا حول هذا الجانب أو ذاك من الأمور، لأنه أمر غير مقبول".
وتابع "من مصلحتنا إيجاد تسوية مؤقتة أو اتفاقيات في عدد من القضايا، سواء في المجال التجاري أو في الحرب الأوكرانية، حيث تلعب الولايات المتحدة دورا رئيسيا يتعلق بالأمن الأوروبي، وبالمثل، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لأنها محورية لضمان استقرار الشرق الأوسط، الذي يعتبر منطقة إستراتيجية".
وبما أن فرنسا عضو دائم في مجلس الأمن ، قال السفير الفرنسي السابق "تقع على عاتقنا مسؤولية الحفاظ على الاستقرار العالمي، صحيح أن لإدارة ترامب طريقتها الخاصة في تسيير الأمور -والتي لا تتوافق مع الممارسات الدبلوماسية التقليدية- لكن علينا التعايش معها والاختلاف في الرأي لا يعني انهيار العلاقات الثنائية".
من جانبه، يعتقد الأكاديمي والباحث في مجال الشؤون الجيوسياسية بيير لويس ريموند أن السفير الأميركي والإدارة الأميركية يريدان فرض تبعية مغايرة لاستقلال الموقف الفرنسي فيما يخص القضية الفلسطينية، موضحا أن هذه التبعية تقف إلى جانب التطرف في التيار الاستيطاني، الذي ينفي حق الفلسطينيين في الحصول على دولة.
ويعتبر ريموند أن "ما حدث لا يصب الزيت على النار فقط، بل يمثل أيضا خطورة متنامية، تتمثل في عدم مساهمة إدارة ترامب في بعث مسلسل السلام في المنطقة، فضلا عن صعود اليمين المتطرف والتطرف في النهج السياسي الأيديولوجي والعمل الدبلوماسي".
وفي تحليله لما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، يتوقع المحلل المتخصص في الشؤون الفرنسية والدولية فقدان الثقة الفرنسية في الدبلوماسية الأميركية، وفي قدرة وكفاءة أقوى دولة في العالم على إدارة الملفات الدبلوماسية، خاصة بعد توظيف البيت الأبيض الموالين لأسرة ترامب ومختصين في بيع العقارات -مثل ستيف ويتكوف – بدل الدبلوماسيين المحترفين.
وجدير بالذكر أن كوشنر (71 عاما) هو والد جاريد كوشنر، زوج إيفانكا ترامب، الابنة الكبرى للرئيس الأميركي، ورغم موافقة مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية على ترشيحه، فإنه يفتقر إلى الخبرة الدبلوماسية، إذ كوّن ثروته في مجال العقارات بتأسيس شركته "كوشنر كومبانيز" عام 1985.
كما قدرت مجلة "فوربس" قيمة شركات كوشنر بنحو 2.9 مليار دولار في أكتوبر/تشرين الأول 2024، وهي قيمة تضاعفت 3 أضعاف منذ انتخاب دونالد ترامب عام 2016 للمرة الأولى، في إشارة واضحة إلى أن السياسة والأعمال يسيران في خط مصالح واحد.