في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
لم يكن بوب سوبيري مجرد رقم عسكري في قوائم الجيش الأميركي، لقد كان مقاتلا آمن يوما ما بأنه يحمل الحقيقة على فوهة بندقية، لكن الحقيقة التي وجدها لاحقا لم تكن في ساحات الحرب، بل في وجوه الأطفال الذين يولدون تحت القصف ويكبرون بلا نوافذ ولا سماء.
وفي عرض البحر، بين موج لا يهدأ وبوصلات تشير إلى قطاع محاصر، وقف المحارب السابق والصهيوني المتعافي على متن السفينة "حنظلة" البعيدة مسافة يومين من الإبحار باتجاه قطاع غزة ، لا ليتصدر المشهد، بل ليمسح بعضا من آثار صمته الطويل.
لم يكن بوب ـ البالغ من العمر 77 عاما ـ ناشطا حقوقيا منذ البداية، وإنما كان رجلا يعرف الحرب جيدا، شارك فيها وعاد منها محمَّلا بذكريات ثقيلة، لكنها لم تغلق قلبه، بل فتحته على معاناة الآخرين.
وُلد سوبيري في سانت لويس بولاية ميزوري، ضمن مجتمع صهيوني يهودي، وذهب إلى معسكر صهيوني عندما كان طفلا، يقول "قضيتُ فصول الصيف كلها هناك، وشعرت أن ذلك كان مدخلي إلى مجتمع خارج عائلتي، أي مجتمع بتفكير مماثل ويضم يهودا آخرين".
وأضاف في حديثه للجزيرة نت "أحمل الجنسية الإسرائيلية والأميركية، وتعلمتُ عن الصهيونية في سن مبكرة، التي كانت آنذاك أيديولوجية ليبرالية للغاية، أو هكذا كنا نظن، وقد أثرت على توجهي السياسي".
طوال حياته، اعتقد سوبيري الذي هاجر والداه من فلسطين إلى الولايات المتحدة بين عامي 1938 و1940، أنهما من إسرائيل، ولم يلاحظ ما كُتب على شهادة ميلاده حتى وقت متأخر، إذ وجد أنها تشير إلى أن مكان ميلاد والدته في القدس بفلسطين، ووالده من اليمن قبل أن يهاجر إلى فلسطين عام 1919.
وأشار سوبيري إلى أن كتاب "سِفر الخروج" كان الكتاب الوحيد الذي يُقرأ في عائلته "لذا، نشأتُ وأنا أمجّد بناء دولة إسرائيل وذهبت لزيارتها عدة مرات منذ عام 1969".
لا يحاول بوب سوبيري إخفاء ماضيه، بل يضعه على الطاولة، ويقول إن فهمه للصراع الفلسطيني الإسرائيلي تغير حين رأى أطفال غزة يركضون حفاةً تحت الطائرات.
وأوضح أنه في عام 2006، أي عندما كان في 58 من عمره، رافق وفدا يضم أميركيين يهودًا وكثير منهم من الجنود المتقاعدين، للعمل في قاعدة عسكرية بحرية جنوب حيفا، "لإحياء تفانيهم وولائهم الصهيوني، وكانت الزيارة مباشَرة بعد هجوم حزب الله على شمال إسرائيل" على حد تعبيره.
ولفت بوب إلى أن ما أزعجه في هذه الرحلة برمّتها كان الاستماع إلى حديث هؤلاء الرجال في المساء بعد انتهائهم من الخدمة العسكرية، وعندما كانوا يجتمعون في الثكنات للتحدث عن السياسة، "لم يكن لدي أي شيء مشترك معهم من حيث مواقفي السياسية والإنسانية"، لكنه بالمقابل شعر أنه منبوذ بين زملائه.
وأضاف "كانوا يعتقدون أن "الفلسطينيين كالقذارة" وأن "عليهم إسقاط قنبلة ذرية عليهم"، مؤكدا أنهم "قالوا ذلك حرفيا عن فلسطين"، كما علّقوا على الأفارقة في كينيا، وكيف تركوا البنية التحتية تنهار بعد رحيل البريطانيين.
وعلق الجندي الأميركي السابق على ذلك بالقول "ربما لم يريدوا أسلوب الحياة الاستعماري هناك، وأرادوا العودة إلى أسلوب حياتهم ومجتمعاتهم الزراعية".
وعند مغادرته الوفد، انتاب بوب سوبيري شعور ممزوج بالقلق والفضول، وبدأ بقراءة المزيد من الكتب النقدية عن تاريخ فلسطين وإسرائيل، يقول "قرأت الكثير من المؤرخين الإسرائيليين، وتعمقتُ أيضا في كتب المؤرخين الفلسطينيين، مثل رشيد الخالدي وإدوارد سعيد، وقد جعلني ذلك أرغب في الذهاب إلى فلسطين مرة أخرى".
وبعد مرور سنوات طويلة لم يتجاوز فيها بوب الخط الأحمر، قرر الانضمام إلى وفد منظمة يهودية تُدعى "مركز اللاعنف اليهودي "عام 2019، موضحا "أثاروا اهتمامي لأنهم يركزون جهودهم على الميدان ويتدخلون في الصراع بين المستوطنين والفلسطينيين في مسافر يطا الواقعة بمحافظة الخليل ".
وفي عام 2023، بدأ رحلة الإبحار على متن حنظلة "كانت رحلتي الأولى على هذه السفينة، وأحضرتها من شمال النرويج إلى أوسلو وقضيت شهرا فيها، ثم في العام الماضي، كنت على متنها لمدة شهر عبر فرنسا والبرتغال وإسبانيا".
وتابع "لم أشعر بنفس الارتياح لاتخاذ قرار في حياتي كما أشعر به الآن، ويشرفني أن أكون على متن هذه السفينة لأنني لطالما رغبت بالمشاركة في أسطول الحرية ، انضممت إليه عام 2018 لكن جائحة كورونا أوقفت كل الأساطيل".
ويعتبر الجندي الأميركي السابق أنه إذا لم تنجح "حنظلة" في الوصول إلى غزة -وهو السيناريو الأكثر ترجيحا في نظره- فإنه يود الإشارة إلى أن المساعدات الإنسانية الموجودة على متن السفينة رمزية في المقام الأول "أي أن ما ننقله هو قطرة في بحرٍ بالنظر إلى المجاعة والحاجة إلى الغذاء والإمدادات الطبية".
وأوضح سوبيري أنه وباقي النشطاء يريدون لفت انتباه العالم إلى الحصار الإسرائيلي غير القانوني على غزة "إنهم محاصرون برا وجوا وبحرا، ونحاول كسر هذا الحصار وإعلانه ليعلم الناس بفظاعته، كما نود أن يعلم فلسطينيو غزة و الضفة الغربية أن العالم يرى ويتابع ما يحدث".
وأضاف "كثيرا ما يسألني الناس: لماذا تُعرّض نفسك للخطر بهذه الطريقة؟ وأجيبهم: إنه لشرف لي أن أكون هنا وأكون قادرا على فعل شيء من أجل الشعب الفلسطيني، حتى لو كان مجرد إخبارهم بأننا إلى جانبهم. وإن لم ننجح، فسنفعل ذلك مرة أخرى إلى أن يُكسر الحصار".
لا يبدو بوب سوبيري صوتا غربيا متضامنا فحسب، بل يعتبر نفسه ببساطة إنسانا قرر أن يكون في الجانب الصحيح من التاريخ، وعند النظر إلى حياته السابقة، يقول اليوم "حتى من خاضوا الحرب، يمكنهم أن يُبحروا نحو السلام، إن امتلكوا الإيمان والشجاعة".