أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن دخول تركيا عهدًا جديدًا قائمًا على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، مؤكدًا بدء مرحلة جديدة في مشروع "تركيا بلا إرهاب" الذي شمل حل حزب العمال الكردستاني، ووقف العمليات الإرهابية، وإلقاء السلاح بشكل نهائي.
جاءت تصريحات أردوغان في الاجتماع التشاوري الـ 32 لحزبه العدالة والتنمية يوم السبت 12 يوليو/ تموز 2025 في أنقرة، وبعد يوم واحد من بدء تسليم حزب العمال الكردستاني أسلحته وحرقها في مشهد رمزي شمال العراق.
تشكّل تصريحات الرئيس التركي تبنيًا رسميًا للمسار السياسي الذي بدأ في أكتوبر/ تشرين الأول الفائت مع دعوة رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، حيث بقيت التصريحات الرسمية التركية حذرة ومتحفظة وتركز على فكرة متابعة الخطوات العملية على الأرض.
سبب هذا التحفظ هو الفشل الذي جلل كافة التجارب المشابهة السابقة، وخصوصًا المسار الأخير في عهد العدالة والتنمية والذي توِّج بدعوات مشابهة من أوجلان لإلقاء السلاح، الأمر الذي بدأ فعلًا قبل أن يتوقف ويستأنف الكردستاني عملياته تأثرًا بالتطورات في سوريا بدءًا من 2014.
ما جعل المسار الحالي أقرب للنجاح والفاعلين أكثر تفاؤلًا به ثلاثة متغيرات رئيسة:
الأول؛ قدرات الدولة التركية المتقدمة في مكافحة الإرهاب وما حققته من خطوات في مجال الصناعات الدفاعية ولا سيما سلاح المسيّرات الذي حقق فارقًا مهمًا على هذا الصعيد، لتنتقل تركيا خلال سنوات معدودة من خوض حرب مدن وشوارع على أراضيها ضد الإدارات الذاتية التي أعلنها العمال الكردستاني في 2015 إلى حرب استباقية قوضت معظم قدرات الكردستاني والمنظمات المرتبطة به في كل من تركيا والعراق، ونسبيًا في سوريا.
الثاني؛ المراجعات الفكرية والسياسية للمنظّر الأول لحزب العمال وزعيمه التاريخي عبدالله أوجلان كنتيجة نهائية لسلسلة من المراجعات والمحطات المهمة، تجلى آخرها في الرسالة التي نقلت عنه من سجنه في جزيرة إيمرالي، حيث أكد فيها تغير الظروف الإقليمية والعالمية اليوم عنها في سنوات تأسيس الحزب (سبعينيات القرن الماضي)، ومقرًّا بأن أيديولوجيا الحزب وبرنامجه وأهدافه لم تعد تحظى بتأييد شعبي، وأن المشاريع الانفصالية ليست الحل الأمثل ولا الممكن اليوم.
والثالث؛ هو التغيرات الإقليمية والدولية التي عملت هذه المرة لصالح تركيا وليس ضد مصلحتها، كما حصل في العقد الماضي.
فقد تطور التعاون بين تركيا والعراق ليصنّف الأخيرُ العمال الكردستاني منظمة محظورة، ووضعَ تغيُّرُ النظام السوري قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في موقع دفاعي بعد رجحان كفة أنقرة، أحد أكبر الداعمين للنظام الجديد في دمشق.
ثم أتت إدارة ترامب الجديدة لتكمل المشهد بسحب جزء من القوات الأميركية في سوريا، وتصريحات مبعوثها إلى سوريا توم باراك قبل أيام بضرورة اندماج عناصر قسد في الجيش السوري ورفض بلاده دعم أي مشاريع انفصالية من أي نوع أو مستوى.
ببدء الخطوات العملية لإلقاء السلاح، تكون أنقرة على مشارف حل الملف الأصعب والأكثر حساسية لها داخليًا وخارجيًا، داخليًا بتأثيراته السلبية أمنيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وخارجيًا كورقة ضغط عليها.
حرص أردوغان في خطابه، الذي وصف بالتاريخي، على التأكيد أن المسار الحالي ليس نتيجة لمساومات ومحاصصة مع العمال الكردستاني، لكن هذا لا ينفي أن المسار السياسي يحقق مصالح كافة الأطراف كما كان المسار العسكري ضارًا بها جميعًا.
فالمسار السياسي يحقق للدولة التركية وقف العمليات الإرهابية، وبالتالي الأمن والاستقرار وتخفيف الضغوط الخارجية بكل ما لذلك من مكاسب اجتماعية وسياسية واقتصادية وأمنية وإستراتيجية.
ويحقق للطيف الكردي من الشعب التركي مكاسب إضافية تتعلق بالحقوق والحريات والسلم المجتمعي، ستبني على الإصلاحات السابقة. وسيسعى التيار السياسي الكردي لمكاسب أخرى تتعلق بالمشهد السياسي الداخلي بدءًا من المواد الدستورية ووصولًا للإدارات المحلية.
ولذلك فإن السؤال الذي يتكرر حول "على ماذا سيحصل العمال الكردستاني مقابل حل نفسه؟" يجد إجابته أولًا بانسداد الأفق أمام فكرة الدولة الكردية وحتى الإدارات الذاتية كما سبق شرحه، وثانيًا في المسارات الدستورية والقانونية المرتقبة.
ولذلك فإن المسار الأبرز الذي يختصر عددًا من استحقاقات المرحلة القادمة هو الدستور، بغض النظر أكان صياغة دستور جديد أم القيام بتعديلات دستورية واسعة.
المواد المرتقبة في أي مسار دستوري قادم يفترض أن تشمل ما يتعلق بتعريف المواطنة والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات، وما يرتبط بحقوق "الأقليات" في المقام الأول.
الأصعب من ذلك هو التشريعات التي ستتعامل مع قيادات وعناصر العمال الكردستاني من حاملي الجنسية التركية بعد حل الحزب، حيث ننتظر مواد قانونية تصنفهم على مجموعات وتتعامل مع كل منها بمسار قانوني مختلف، بين العفو والإدماج في المجتمع والبقاء خارج تركيا وتسويات أوضاع آخرين وفقًا لمناصبهم وأعمالهم خلال سنوات انتسابهم للمنظمة.
كما أن المسار القانوني قد يلحظ زيادة صلاحيات الإدارات الذاتية (البلديات تحديدًا)، وهو مطلب ظهر كبديل للإدارات الذاتية وغيرها من المسارات الانفصالية.
يتطلب إقرار دستور جديد أو أي تعديل دستوري موافقة ثلثي أعضاء البرلمان أي 400 من أصل 600 نائب، أو تصويت 60% من أعضاء البرلمان بالحد الأدنى لعرضه على استفتاء شعبي، أي 360 نائبًا، وهو ما لا يملكه تحالف الجمهور، حيث يملك العدالة والتنمية 272 والحركة القومية 47 نائبًا في البرلمان.
في خطابه الأخير، تحدث أردوغان عن "تحالف جديد" ينضم إليهما فيه حزب ديمقراطية ومساواة الشعوب "الكردي" الذي عمل كوسيط لنقل رسائل أوجلان والذي يملك 56 نائبًا، ما يجعل مجموع نواب الأحزاب الثلاثة 375 نائبًا.
من البديهي أن هذا ليس تحالفًا انتخابيًا ولا تحالفًا سياسيًا بالمعنى الشامل، لكنه تحالف سياقي يرتبط بشكل أساسي بإقرار الاستحقاقات القانونية والدستورية للمراحل القادمة في مشروع "تركيا بلا إرهاب".
ومن الواضح أن الأحزاب الثلاثة تملك الإرادة السياسية للاستمرار في هذا المسار والكفاية العددية في البرلمان لإنجاحه، كما أنها تدعو الأحزاب الأخرى لتقديم دعمها للمسار- كما جاء على لسان أردوغان نفسه- لكنها ليست رهينة بالضرورة لتأييدها.
ما زال يمثُل أمام المسار الحالي عدد من التحديات المفترضة أو المحتملة، من بينها احتمال رفض بعض الأطراف والتيارات في العمال الكردستاني الالتزام بوقف إطلاق النار وحل الحزب وإلقاء السلاح، أو تدخل أطراف خارجية (في مقدمتها "إسرائيل" مثلًا) للتشويش والتخريب بدعم تيارات أو شخصيات غير راضية عن المسار، أو حصول تطورات إقليمية/ دولية غير متوقعة تصب في غير صالح تركيا، أو عدم إقرار الاستفتاء الشعبي (في حال أجري) للتعديلات الدستورية المتوقعة.
لكن قدرة أي من هذه السيناريوهات على التأثير السلبي تبدو اليوم محدودة جدًا بعد الخطوات السياسية والعملية الكثيرة التي جرت، والزخم الذي حصل في المسار وصولًا للمرحلة الحالية.
أخيرًا، فإن لنجاح مشروع "تركيا بلا إرهاب" تداعيات عديدة على المشهد السياسي الداخلي، ستبدو أكثر وضوحًا مع تقدم المرحلة المقبلة وخصوصًا في البعد الدستوري والقانوني.
لكن يفترض أن يساهم نجاحه في المقام الأول بزيادة مستوى السلم المجتمعي وتحرير السياسة الداخلية من بعض الضغوط والاستقطاب، ويؤمل أن يساعد على رفع مستوى الحريات في البلاد.
لكن يبقى سؤال لم يجد إجابته بعد، وهو: ما ارتباط المسار الحالي بإعادة ترشح الرئيس أردوغان للانتخابات الرئاسية القادمة، بغض النظر أجريت في موعدها أم بكّرت؟، حيث يقول أردوغان إنه لا يهدف لذلك، بينما يؤكد الناطق باسم حزبه عمر تشيليك وحليفه دولت بهتشلي بأن أكبر أهداف الحزبين يتمثل في إعادة انتخاب أردوغان رئيسًا "بعدما أثبت تفرد قيادته ونجاحها في الداخل والخارج".
والعامل الرئيس الذي يدفع للاعتقاد بأنه سيترشح مجددًا (مع فرص كبير بالفوز طبعًا) هو – مرة أخرى – الغالبية العددية التي يملكها "التحالف الجديد" في البرلمان بما يمكن أن يحقق انتخابات مبكرة عبر البرلمان (وحينها يحق لأردوغان الترشح تلقائيًا)، أو النص على ذلك في تعديل دستوري جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.