اقتحمت قوات إسرائيلية مخيّم جنين بالضفة الغربية المحتلة، في الليل، وبدأت تأمر سُكان المخيم البالغ عددهم 20 ألفاً بمغادرة منازلهم، لكنّ جمعة زوايدة -البالغ من العمر 66 عاماً- أصرّ على البقاء.
قال جمعة: "جميع أفراد عائلتي غادروا، لكنني أخبرتهم بأن عليّ البقاء، وإذا ما داهمتْ قوة إسرائيلية منزلنا، أريد أن أكون موجوداً لأوقف هدْم المنزل".
مرّت ثلاثة أيام من الخوف، لم يتوقف فيها صوت إطلاق النار والانفجارات، وأزير الطائرات المسيّرة تجوبُ فوق المنازل، وتُبلّغ أوامر لا يستطيع جمعة تمييزها لفرط الضوضاء.
ثم انقطعتْ المياه والكهرباء، وأخذت بطاريّة الهاتف المحمول تفرغ من الشحن، وظنّ جمعة أنه لا يمكنه البقاء أكثر من ذلك.
والآن، بعد ثلاثة أشهر، يقف جمعة فوق رابيةٍ في مدينة جنين، يُطّل منها على "مدينة الأشباح" حيث مخيم اللاجئين.
ويحاول جمعة أن يتبيّن إن كان منزله من بين المنازل التي دمّرتها القوات الإسرائيلية في أثناء عملياتها ضد جماعات مُسلحة فلسطينية كانت موجودة في المخيم.
ومن فوق الرابية، التي يقف عليها جمعة زوايدة، يمكن سماع أصوات التفجيرات مستمرة في المخيم.
يقول جمعة وهو يغالب عواطفه: "بعض الناس أخبروني أنهم يعتقدون أن منزلي قد تهدّم، لكنْ من دون أن يؤكدوا ذلك".
يُذكر أن لجُمعة تسعة أبناء، وكان يعمل في مجال البناء.
وأقام جمعة مدة ثلاثة أشهر في مدرسة تحوّلتْ إلى ملجئ للنازحين من سكان المخيّم، قبل أن ينتقل إلى مكان خاص بإقامة الطلاب الجامعيين حيث يعيش الآن رفقة أخيه.
وقبل أن تندلع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت إسرائيل بالفعل منخرطة في حملة عسكرية ضد مجموعات مسلحة في الضفة الغربية.
وكان عدد من تلك المجموعات المسلحة قد ظهر في معسكرات المخيّم المكتظة بالسكان.
وكان مخيم جنين قد أُقيم بالأساس لاستقبال الفلسطينيين الذين أُخرِجوا من ديارهم إبان حرب عام 1948 التي أعقبت قيام دولة إسرائيل في عام 1948.
وترتبط المجموعات الأساسية في مُخيم جنين بحركتَي الجهاد الإسلامي وحماس.
ويشنّ مقاتلو تلك المجموعات هجمات ضد القوات الإسرائيلية في معظم الوقت، فيما يشنّون بين الحين والآخر هجمات على مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية.
ومن غير المعلوم عددُ هؤلاء المقاتلين الفلسطينيين على وجه الدِقّة، لكن صحفيين محليين يقولون إنّ عددهم كان حوالي 150 مقاتلاً في مخيم جنين، قبل العمليات الأخيرة التي قامت بها إسرائيل بالاشتراك مع السُلطة الفلسطينية.
وشنّت السلطة الفلسطينية، التي تحكم أجزاءً من الضفة الغربية، حملتْها في مخيّم جنين في ديسمبر/كانون الأول 2024، ولم تنسحب قوات السُلطة من المخيم إلا عندما بدأت قوات الجيش الإسرائيلي عمليتها الرئيسية هناك في يناير/كانون الثاني.
ويطلق وزير الدفاع الإسرائيلي على المخيّمات اسم "أعشاش الإرهاب"، وفي يناير/كانون الثاني كثّفت إسرائيل حملتها ضد المجموعات المسلحة التي تعمل في داخل المخيمات.
وقامت القوات الإسرائيلية باقتحام عدد من مخيمات اللاجئين في شمال الضفة الغربية وقامت بمحاصرتها.
وأمرت القوات الإسرائيلية سُكان تلك المخيمات، البالغ عددهم عشرات الآلاف، بالنزوح، وبدأت في موجة من هدم المنازل، بينما منحت بعض السُكان مُهلة موجزة لجمع أغراضهم.
وبالفعل منعتْ إسرائيل، أو كادتْ تمنع، الفلسطينيين تماماً من الدخول إلى المخيمات، كما أن القوات الإسرائيلية لا تعلن عن المباني التي تهدمها، مما ترك العديد من الفلسطينيين النازحين قَلقين بشأن العودة إلى تلك المنازل، التي ربما لم تعُد قائمة.
وتقدّر وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل لاجئي فلسطين، الأونروا، أعداد المباني التي هدّمتها إسرائيل بنحو 260 بناية على الأقل تحتوي على حوالي 800 شقة سكنية، وذلك في أثناء عملية "الجدار الحديدي".
وركزّت إسرائيل عملياتها على ثلاثة مخيمات أكثر من غيرها في شمال الضفة الغربية هي: مخيم جنين، وطولكرم ومخيم نور شمس.
وتقدّر الأونروا أعداد النازحين من المخيمات منذ يناير/كانون الثاني بنحو 42 ألف شخص على الأقلّ.
وفي فبراير/شباط الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قتل في عملياته 60 مقاتلاً، كما اعتقل 280 آخرين.
بينما يقول مسؤولون في وزارة الصحة الفلسطينية إن 100 قُتلوا في الضفة الغربية منذ بداية العملية في يناير/كانون الثاني حتى اليوم.
وفي فبراير/شباط، قال وزير الدفاع الإسرائيلي إن الجيش كان يدمّر أسلحة وبنية تحتية "على نطاق واسع"، مشيراً إلى أنه أعطى تعليماته للجيش بالبقاء في مخيمات اللاجئين لمدة عام، وبمنْع السكان من العودة إلى هناك.
وقال الجيش الإسرائيلي لبي بي سي، إن "الميليشيات تستخدم المدنيين كدروع بشرية كما تعرّض حياتهم للخطر عبر زرْع عبوات ناسفة وإخفاء أسلحة".
وتقول وكالات إغاثية إن الحملة الإسرائيلية تسببت في أكبر عملية نزوح للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ عقود.
وقال رولاند فريدريك، مدير شؤون الأونروا في الضفة الغربية إنّ "ما يحدث لم يسبق له مثيل، سواء على صعيد عدد المشرّدين أو حجم الدمار – لم نرَ شيئاً شبيهاً منذ عام 1967"، في إشارة إلى السنة التي بدأت فيها إسرائيل احتلالها العسكري للضفة الغربية.
في أثناء تصوير مقابلة مع رئيس بلدية جنين محمد جرّار، رصد فريق بي بي سي احتجاز إسرائيل لعدد من الفلسطينيين، بينهم عُمال في البلدية بينما كانوا يحاولون دخول المخيّم لإزالة الحواجز من طريقٍ مؤدِّية إلى مستشفى قريب.
وظل هؤلاء العُمّال رهن الاحتجاز الإسرائيلي لمدة ثلاث ساعات قبل إطلاق سراحهم.
وقال جرّار: "ثمة عقبات كبرى، على صعيد تقديم الخدمات للمواطنين. فكما يعلم الجميع، تحطّمت البِنية التحية بالكامل في مخيّم جنين".
وأضاف جرّار: "هدف إسرائيل هو محاولة أن تجعل مخيم جنين مكاناً يستحيل العيش فيه، وأنا أقول لكم إن المخيّم بالفعل بات غير صالح نهائياً للعيش".
وأدى الحصار الذي تفرضه إسرائيل على مخيّمات اللاجئين في الضفة الغربية إلى استحالة الوصول إلى معلومات بشأن ما يحدث في الداخل، بما في ذلك حجم الدمار، حسبما يقول رولاند فريدريك.
ونعودُ إلى جمعة زوايدة؛ حيث أنه أحد هؤلاء المشردين الفلسطينيين الذين مُنحوا إذناً من جانب القوات الإسرائيلية لكي يقوموا بزيارة قصيرة لبيوتهم من أجل استرجاع متعلقاتهم.
وبالكاد، تمكّن جُمعة من التقاط بطاقة الأمم المتحدة للاجئين الخاصة به، كما استطاع أن يُحضر معه كلب العائلة.
وبعد مرور شهرين، أصدرت إسرائيل خريطة تفيد بأن أكثر من 90 بناية في جنين تحتاج إلى الهدم. وبدا أنّ منزل جمعة زوايدة كان من ضمن هذه المنازل التي اشتملت عليها خريطة الهدم الإسرائيلية.
وقال الجيش الإسرائيلي لبي بي سي إنّ هدْم هذه المنازل كان ضرورياً من أجل تحسين "حرية الحركة" أمام قواتها، لكن من دون أن تؤكد ما إذا كان منزل جُمعة زوايدة تم تدميره بالفعل أم لا.
قارن فريق بي بي سي خريطة الهدم التي أصدرتها إسرائيل في مارس/آذار بصورة التقطتْها الأقمار الاصطناعية لمخيّم جنين بعد أسبوع.
ونستطيع أن نجزم بأنه بحلول الـ27 من مارس/آذار، كان بالفعل قد هُدم ما لا يقل عن 33 منزلاً كانت على القائمة، بينها منزل جمعة زوايدة.
وتُظهر صورة القمر الاصطناعي أن العديد من أعمال الهدم وقع منذ يناير/كانون الثاني، فيما تكشف الصورة عن قيام القوات الإسرائيلية بإنشاء عدد من الطُرق الجديدة حيث كانت تقوم منازل للفلسطينيين من قبل.
ويتساءل جمعة زوايدة: "لمَ هدموا بيتي؟ أريد أن أعرف. أريد من الجيش الإسرائيلي أن يعطيني تبريراً. لا علاقة لي بالمسلحين. أنا شخص مسالم. تقلّبتُ بين الأعمال والوظائف على مدى 50 عاماً لكي أشيّد هذا البيت".
ورغم علمه بهدم منزله، لا يزال جمعة زوايدة يصرّ على العودة، يقول النازح الفلسطيني "لن أغادر المخيم. إذا لم يسمحوا لي ببناء بيتي من جديد، فسوف أنصبُ خيمة في مكانه. أو لم يكفِ تشريد أهلنا في عام 1948، حتى نواجه نحن أيضاً المصير ذاتَه مجدداً؟".