في مقهى صغير دافئ وسط دمشق">العاصمة دمشق، تتذكر الصحفية الشابة، زينة شهلة، جلسة التحقيق معها عندما اعتقلت في فرع فلسطين في دمشق قبل أكثر من عشر سنوات.
هناك، فوجئت زينة بتفاصيل حياتها الخاصة مرصوصة في صفحات مجلد كبير على طاولة المحقق، "كانت مكالماتي الهاتفية مفرغة بالكلمة والحرف بمجلد بهذا الحجم،" تقول لي مباعدة بين كفيها. منذ ذلك اليوم، تتابع، باتت تشعر بوجود رقيب قابع فوق رأسها يقرأ كل كلمة تكتبها. وتعلق "كنت أفكر إذا كان عنصر الأمن يقرأ الآن ماذا ستكون ردة فعله؟".
اليوم ودون أن يبدو عليها خوف ولا ارتباك تحكي شهلة قصتها أمام الكاميرا في مقهى عام وسط مشق، وهو مشهد كان أقرب للمستحيل قبل سقوط النظام في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
بانهيار النظام انهارت القيود الصارمة التي فرضها على الإعلام، وتدفق الصحفيون الدوليون عبر الحدود المفتوحة، وعاد إعلاميون سوريون كثر من المنفى، وتقاطعت لغات ولهجات متنوعة في ساحة الأمويين حيث انتشرت عربات البث المباشر التلفزيونية في كل مكان.
لكن بعد قرابة خمسة أشهر من تلك اللحظة الفارقة في تاريخ سوريا، لم يعد المشهد الإعلامي بالاحتفالية ذاتها، واختلفت تجارب الإعلاميين السوريين الذين تواصلتُ معهم، بين متفائل وخائف أوتارك للبلاد. فهل كانت تلك الحرية مجرّد حالة مؤقتة نتجت عن الفوضى التي صاحبها تحول سياسي كبير؟
"كانت تجربة جديدة تماماً بالنسبة إلي كصحفي، فيها حرية مطلقة،" يقول ملاذ الزعبي، الصحفي والكاتب السوري، مضيفا: "لكنها كانت ناتجة عن غياب سلطات جديدة متمكنة، أو عن غياب تنظيم للعمل الإعلامي". يؤكد الزعبي أنه تمكن من العمل "بسقف عالٍ جداً ومن دون خوف، لعدة أسابيع" خلال زيارتين متتاليتين إلى دمشق عقب سقوط النظام.
يتذكر ملاذ فترة عمله في سوريا عقب اندلاع الاحتجاجات في 2011، فرغم أن "سقف الحرية ارتفع قليلا حينها، إلا أن التعبير عن بعض المواضيع بقي خطيراً"، على حد تعبيره، ولذلك بدأ يكتب مقالات ساخرة وتعاون مع جهات إعلامية دولية باسم مستعار.
حتى العام الماضي، كانت سوريا تعد من أخطر الدول للعمل الصحفي، ووصلت للمرتبة ما قبل الأخيرة، بعد إريتيريا، في مؤشر حرية الصحافة العالمي، وفقًا لمنظمة مراسلون بلا حدود.
يعلق على ذلك جوناثان داغر، مدير مكتب الشرق الأوسط لمنظمة صحفيون بلا حدود بأن "الحريات الإعلامية كانت شبه منعدمة" في البلاد، وقد تعرض الصحفيون للقتل والتعذيب والإخفاء القسري "تحديدا في مناطق نفوذ نظام الأسد."
واتهمت المنظمة في بيان سابق حكومة الأسد وحلفاءها بقتل 181 صحفياً في سنوات الحرب الأهلية سواء بالاستهداف المباشر أو تحت التعذيب في السجون، بحسب داغر. كما اتهمت فصائل أخرى مثل تنظيم داعش وهيئة تحرير الشام بارتكاب جرائم بحق صحفيين.
لكن الخوف والهاجس الأمني الذي لازم الصحفيين لعقود، لم يمنع كثيرين من العمل والتأقلم مع المزاج المتغير للتعاطي الحكومي مع الاعلام ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة. بالنسبة إلى كثيرين، كانت الخطوط الحمراء مبهمة ومؤشر المسموح والممنوع يتأرجح وفقاً لميزان القوة العسكرية على الأرض.
يصف مدير إذاعة "شام أف إم"، سامر يوسف، الفترة بين 2011 و 2014 ب"الفترة الذهبية" بالنسبة للإذاعة المحلية الخاصة: "كان سقف الحرية عال، كنا قادرين أن نقول كل شيء، نستضيف معارضين للحكم، وكانوا يتهجمون على قوات الأمن على الهواء، وكنا نغطي الاحتجاجات"، يتذكر يوسف، "لكن لاحقاً عندما شعر النظام أن الأمور استقرت وشارف على الانتصار بدأت تزداد الضغوط و تكثر الخطوط الحمراء وانخفضت سقوف الحرية."
كحال البلاد، انقسم المشهد الإعلامي في سوريا منذ اندلاع الاحتجاجات في عام 2011. فبينما عمل صحفيون تحت الرقابة الشديدة للسلطات، وعمل آخرون وفقا لأجندتها، برزت أسماء كثيرة على المقلب الآخر للوطن، سواء في مناطق التمرد ضمن العاصمة أو المدن التي أعلنت لاحقاً استقلالها عن نظام الحكم.
جريدة "عنب بلدي" رأت النور للمرة الأولى على يد مجموعة من الصحفيين الهواة من مدينة داريا غربي العاصمة دمشق، بعد عام على اندلاع الثورة ووسط مواجهات وأحداث عنف قاسية خيمت على محيط العاصمة.
يصف مدير تحرير الجريدة، علي عيد، بأن "عنب بلدي" خرجت "من رحم قضية الدفاع عن الحرية والمظلومين وكانت مواضيعها تركز على هموم الناس."مع تصاعد العنف، اضطر الفريق للعمل من لبنان ثم تركيا، لكنه عاد إلى سوريا بعد انهيار نظام الأسد، واتخذ مقراً جديداً للجريدة يطل على القسم المدمر من داريا. في إحدى زوايا المكتب، تكدست النسخ الورقية للصحيفة المطبوعة في دمشق، للمرة الأولى بعد سنوات طويلة. يعلق عيد على تجربة صحيفته بالقول إن "الصحيفة تطورت لكنها "حافظت على المفهوم الأساسي ولم تتخل عن استقلاليتها."
كفريق عنب بلدي، عاد العديد من المواطنين الصحفيين والناشطين الإعلاميين الذين واكبوا اندلاع الاحتجاجات وامتدادها على مستوى البلاد. وباتوا اليوم مقترنين بالوجه الإعلامي الجديد لسوريا، غالباً ما يظهرون في محيط الدائرة الضيقة للسلطات الجديدة، ويرافقون قوات الأمن في عمليات المداهمة والاعتقالات التي تشنها بين وقت وآخر.
أحد هؤلاء الصحفيين ظهر في مشهد أثار استهجاناً بين رواد شبكات التواصل الاجتماعي منتصف فبراير/شباط، أثناء مواكبته لحملة للقوى الأمنية على موقع وصف بمقبرة جماعية في ريف دمشق، عندما رفع أمام الكاميرا ما قال أنه عظمة بشرية لجثة مدفونة هناك. كذلك تداول ناشطون وصانعو المحتوى فيديوهات عديدة من المعتقلات السابقة، والمراكز الأمنية نشروا خلالها وثائق خاصة بالضحايا المغيبين قسرياً وأظهروا بطاقاتهم الشخصية. أثارت هذه السلوكيات انتقادات في الأوساط الإعلامية السورية حول معايير العمل الصحفي اليوم.
يصف الزعبي المشهد الإعلامي اليوم في سوريا ب"العبثي إلى حد ما" سواء كان الأمر يتعلق بالمواطنين الصحفيين أو محترفين يعملون مع وسائل إعلامية كبيرة، على حد تعبيره. ويتابع أن المواطنين الصحفيين، خاصة المقربين من السلطات، يرتكبون ما يصفه ب"الكوارث" في ما يتعلق بالتعامل مع "مناطق القبور الجماعية والمعتقلات واحترام مشاعر أهل الضحايا."
من جهتها، تعزو شهلة ذلك إلى ما تصفه ب"قلة الخبرة" بتوثيق كل تلك الانتهاكات التي برزت على السطح عقب سقوط الحكم. وتضيف أن "التدريبات التي يتلقاها الصحفيون للتعامل مع هذه الأمور قليلة "لذلك ليست هناك الخبرة اللازمة لتغطية قضايا كفتح السجون، ولقاءات مع ضحايا ناجين، ومعتقلين سابقين."
تجارب مختلفة وتجاذبات سياسية تعيد تشكيل المشهد الاعلامي السوري اليوم، بينما يتفرد بعض الإعلاميين في كثير من الأوقات بنقل وجهة نظر الإدارة الجديدة، يعبر صحفيون آخرون، تحدثت اليهم بي بي سي، ممن عملوا لسنوات طويلة في الاعلام في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة الحكومة عن إحباطهم بسبب ما وصفوه بـ"إقصاء" يشعرون أنه يمارس ضدهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بهذا النوع من التغطيات الميدانية.
تصف مراسلة لصحيفة عربية، فضلت عدم ذكر اسمها، الحصول على المعلومة بالـ "مهمة صعبة" اليوم مشيرة إلى أن الأمر مرتبط بتفضيلات لـ"صحفيين معينين". وتتابع الصحفية الشابة أنها غالباً ما تلجأ لطلب مساعدة من صديق في إدلب للحصول غلى معلومات تحتاجها. كذلك، تقول الصحفية أن تفاعل الناس مع الإعلام اختلف أيضا، " فالناس باتت أكثر خوفا من الحديث للإعلام" مشيرة إلى أن "هذا الخوف لم يكن موجودا في الاسابيع الاولى لسقوط النظام لكنه ازداد بشكل كبير بعد مجازر الساحل، حتى بين المؤيدين للنظام الحالي".
يبدو أن الأحداث الدموية التي شهدها الساحل السوري في شهر مارس/آذار الماضي شكلت منعطفاً في أسلوب تعاطي الإدارة السورية الجديدة مع الحريات الاعلامية، كما ظهرت بوادر انقسام بين السرديات التي تناولت تلك الأحداث. إذ يروي مراسل وسيلة إعلام عربية، فضل عدم الكشف عن اسمه، أنه تلقى اتصالاً هاتفيا من مسؤول شؤون الصحفيين في وزارة الإعلام، سأله فيه عن مدى ثقته بالمعلومات التي ينشرها حول المجازر على صفحات التواصل الاجتماعي. ويتابع "صار يقول لي أين كنتم عندما كنا نُقصف (في إدلب)؟" في إشارة لقصف القوات الحكومية السورية وحلفائها الروس للمدينة. ويضيف "بعدها قال لي بوضوح لا تنشر أي شيء على صفحتك بعد الآن."
قبيل ذلك تحدث إعلاميون يوصفون بالمقربين من السلطات السابقة عن تعرضهم لمضايقات وضغوطات مشابهة انتهت بالاستحواذ على مكاتبهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
يروي لنا يوسف، مدير "شام أف أم" كيف تعرض بدوره لمضايقات على خلفية نشر بعض الأخبار، عقب سقوط النظام واستلام حكومة تسيير الأعمال زمام الأمور في البلاد. يقول "يبدو أنه كان هناك خطاب معين وكليشيهات جاهزة كان على كل من يعمل بالإعلام بسوريا أن يتبناها،" ويضيف "لم أستطع. ناقشت كثيراً، وقلت لـ (موظفي وزارة الإعلام) بهذه الطريقة سنخسر كل متابعي الإذاعة. طلبت أن نغير اللغة، لكنهم رفضوا، ووصلنا لطريق مسدود."
قدم فريق الإذاعة استقالات جماعية، بحسب يوسف الذي غادر بدوره البلاد، وتابعت الإذاعة بثها بفريق جديد.
بحسب منظمة مراسلون بلا حدود، تم بالفعل تسجيل حالات "تضييق وإقصاء لبعض الصحفيين واعتداء جسدي ولفظي، وملاحظات تعطى للصحفيين بهدف التضييق عليهم وقمعهم وفرض الرقابة الذاتية." ويضيف داغر، مدير مكتب الشرق الأوسط للمنظمة أن " حرية الصحافة ستكون الملف الأساسي الذي سيحدد مصداقية وشرعية الإدارة الجديدة."
تواصلت بي بي سي عربي مع وزارة الاعلام للتعليق على هذه الادعاءات لكن لم تحصل على رد حتى موعد نشر هذا المقال.
في نهاية مارس/آذار الماضي شُكلت الحكومة السورية الجديدة، وعُين وزير جديد للإعلام. وأعلن الوزير حمزة المصطفى عبر صفحته على فيسبوك عن حاجة سوريا إلي "مدونة أخلاقيات موسعة وتفصيلية تشارك في صياغتها مؤسسات إعلامية ونقابات وقوى اجتماعية مختلفة، قبل أن تقرها الدولة مرجعية قانونية لضبط الخطاب الإعلامي والسياسي، وتوضيح الحدود الفاصلة بين حرية التعبير، التي يجب أن تكون مكفولة، والفوضى". وأضاف أن الوزارة بصدد وضع استراتيجيات وأدوات مختلفة سترى النور قريباً.
وفي حين يتفق صحفيون سوريون على ضرورة وضع أطر مهنية تحد من خطاب الكراهية وتكفل حرية التعبير، يتخوف آخرون من أن تتحول تلك الإجراءات لوسيلة جديدة للقمع.
وإلى أن تتبلور تلك المرجعية القانونية المنتظرة، سألت الصحفيين الذين التقيتهم إن كانوا يشعرون بأنهم أحرار اليوم؟
بادر الزعبي للإجابة ب"نعم،" واستطرد "أنا أشعر أنني أكثر حرية لكن لست متأكداً إلى متى" سيستمر ذلك. أما الصحفي الذي فضل عدم الكشف عن اسمه فقال إنه كان يكتب بحرية، في الشهرين الذين أعقبا سقوط النظام "لكني عدت الآن لإخفاء اسمي"، كما كان الحال أيام حكم الأسد.
قالت شهلة إنها لا تزال تتساءل عن "الخطوط الحمراء" في ما تكتبه، مضيفة: "ربما لا أعتبر نفسي صحفية حرة تماماً بعد، فالأمر يحتاج إلى وقت." وتتابع بنبرة متفائلة: "أتمنى إن التقينا بعد سنة أو سنتين أن أقول لك: نعم، أنا صحفية حرة."