عادة ما تشهد العملات النقدية صعوداً وهبوطاً باستمرار، لكن سعر صرف الدولار شهد تراجعاً كبيراً في الأشهر الأخيرة.
فلماذا هذا الهبوط، ولماذا ينبغي أن نتهم به؟
كان سعر صرف الدولار في صعود أثناء الخريف، الذي سبق الانتخابات الرئاسية في 2024، بفضل نمو نسبي في الاقتصاد الأمريكي، واستمر في قوته بعد فوز ترامب بالرئاسة، في نوفمبر/تشرين الثاني، على أمل أن يواصل صعوده.
وكان للحديث عن سياسة ترامب التجارية تأثير أيضاً. فالكثير من المستثمرين اعتقدوا أن تؤدي التعريفات الجمركية، التي وعد بفرضها، إلى زيادة التضخم. وهو ما يجبر البنك المركزي الأمريكي على رفع نسبة الفائدة، أو على الأقل عدم خفضها بالسرعة التي كانت متوقعة.
فرفع نسبة الفائدة في الولايات المتحدة يجعل الدولار أكثر جاذبية، إذ يعني أن المستثمرين سيحققون أرباحاً أكبر من سيولتهم النقدية بالدولار مقارنة بالعملات الأخرى.
ولكن التفاضل تغير في الأشهر الأخيرة، بعد ظهور تفاصيل هذه التعريفات، وما تلاها من تعليق أو توسيع مثلما حدث في حالة الصين، ما أثار شكوكاً بخصوص تأثيرها.
وتتوقع أغلب التقديرات الآن أن يتراجع نمو الاقتصاد الأمريكي.
وأدى ذلك إلى هبوط حاد في سعر صرف الدولار. ويبدو أن انتقادات ترامب لرئيس البنك المركزي، جيروم باول، بسبب عدم تخفيض نسبة الفائدة، زاد أيضاً من الضغوط على الورقة الخضراء.
وترتفع قيمة جميع العملات وتنخفض مدفوعة بالعديد من العوامل، من بينها توقعات التضخم، وسياسات البنك المركزي.
ولكن مؤشر الدولار، الذي يقيس قوة العملة الأمريكية مقارنة بالعملات الأخرى، هوى إلى أدنى مستوياته، منذ ثلاثة أعوام.
يُنظر إلى الدولار عادة على أنه استثمار آمن في زمن التقلبات والأزمات.
وعليه فإن الهبوط الحاد في قيمة العملة، فضلاً عن بيع السندات الحكومية، التي تُعتبر هي الأخرى أصولاً آمنة، أمر غير اعتيادي.
وتقول جين فولي، مديرة استراتيجية الصرف الأجنبي في مصرف رابوبنك، إن انهيار سعر صرف الدولار كان صادماً بعد إعلان ترامب عن التعريفات الجمركية التي سماها "يوم التحرير".
"فقد تقبل السوق لعدة سنوات قصة نمو الاقتصاد الأمريكي. وكانت البورصات الأمريكية متفوقة على البورصات الأخرى. وفجأة يقول لك خبراء الاقتصاد اليوم إن التعريفات ستدفع بالولايات المتحدة إلى التضخم".
وتشير الخبيرة أساساً إلى بيع واسع للأصول الأمريكية من سندات وعملة.
وقد أثار ذلك تكهنات حول ما إذا كان الانخفاض قد يشير إلى تحول أوسع نطاقاً بعيداً عن الولايات المتحدة، وكذلك عن الدولار.
سيلاحظ الأمريكي العادي ضعف الدولار عندما يسافر إلى الخارج، فيجد أن أمواله لن تأخذه إلى أماكن بعيدة. أما السياح الأجانب فيجدون أن عملاتهم تشتري لهم أكثر.
ولكن تذبذب قيمة الدولار له تأثير قوي على المستوى الدولي أكبر من تأثير غيره من العملات.
والسبب في ذلك هو أن العملة الأمريكية هي عملة الاحتياط الأولى في العالم. وهذا يعني أن البنوك المركزية في كل أنحاء العالم تحتفظ بكميات كبيرة منها، باعتبارها جزءاً من احتياط النقد الأجنبي الخاص بها.
والبنوك المركزية تستعمل الدولار في تعاملاتها الدولية، لتسديد الديون، أو لدعم نسبة الصرف المحلية.
ويعد الدولار أيضاً العملة الأساسية في التجارة الدولية.
وتذكر فولي أن حوالي نصف الفواتير في العالم تدفع بالدولار.
ويعني هبوط الدولار أن المنتجات الأمريكية ستكون أرخص في السوق، بينما قد تصبح السلع المستوردة أغلى بسبب ضعف العملة.
والكثير من السلع المتداولة عالمياً مثل النفط والغاز يكون تسعيرها بالدولار. فالدولار الضعيف يجعل النفط الخام أرخص بالنسبة للدول التي تستعمل عملات أخرى.
ترمز قوة الدولار في الولايات المتحدة إلى قوة أمريكا السياسية. فلا يعقل بالنسبة للأمريكيين أن تفقد بلادهم مكانة احتياط الصرفي العالمي، التي تتمتع بها.
وتقول فولي إن عملات أخرى أخذت تتقوى، ولكن هذا لن يجعل الدولار يفقد مركزه الأول في وقت قريب. هذا على الرغم من أن مسؤولاً في الخزانة الأمريكية قال العام الماضي إنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تعتبر هذه المكانة حقاً مكتسباً.
وترى أن الدولار سيستعيد بعض ما فقده في الأسابيع المقبلة، ولكنه لن يعود إلى قوته السابقة.
وذلك لأن كل حركة كبيرة في السوق توفر إمكانيات لتحقيق الأرباح. فلو قرر المستثمرون مثلاً أن يبيعوا اليورو بينما هو في أعلى مستوياته، فإن ذلك قد يؤدي إلى انهيار اليورو وصعود الدولار.
وستراقب الأسواق ما إذا كان ترامب سيواصل انتقاده لرئيس الاحتياطي الفيدرالي. فقد وصف باول بأنه من أكبر "الفاشلين"، ودعا علناً إلى "إقالته".
وإذا تعرض باول إلى ضغوط فإن الأسواق ستتساءل عن مصداقية الاحتياطي الفيدرالي، وهو أمر في غاية الأهمية.
وتقول سوزانا ستريتر، رئيسة قسم المال والأسواق في شركة هارسغريفز لانسدوان للخدمات المالية: "استقلالية البنك المركزي مسألة ضرورية لضمان استقرار الأسعار على المدى الطويل، ولحماية صُنّاع السياسات من الضغوط السياسية الظرفية".