ربما تكون هي المرة الأولى التي نرى فيها فنانة تشكيلية تدخل سجنا عربيا على سبيل الزيارة لتُنصِت لحكايات الجدران، تتأمل أوضاع العالم المعزول الذي فتح لها أبوابه على مصراعيه ولم يحرمها من وطأة قدم بأي بقعة داخله، تلمس الإنسانية في أوج تناقضاتها بين جريمة خطيرة يعاقب عليها الضمير قبل القانون وبين بؤس وشقاء يعيشه مرتكبها مستدرا عطف زائرته لعذاباته وحريته المقيدة، تستمع لشهادات السجناء وسجانيهم على السواء، تلتقط صورا بالكاميرا تصرخ في صمت لرموز وحوائط، أقفال وعنابر وأسلاك، للمنسيين خارج الكوكب بينما تثور تونس في الخارج، لتخرج بمعايشة فريدة وثرية تنقلها خارج الأسوار.
هذا ليس خيالا أو رواية من أدب السجون، بل تجربة واقعية عاشتها الفنانة التونسية هالة عمار عندما زارت 12 سجنا في بلادها من مجموع 28 عام 2011 ضمن لجنة تقصي حقائق رسمية برئاسة توفيق بودربالة، الرئيس الشرفي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمحامي بمحكمة التعقيب، وذلك في أول تصريح رسمي بزيارة تونسيين لسجون بلادهم.
هالة، من مدينة قرطاج وهي اليوم في العقد السادس من العمر، ليست فنانة فقط، بل محامية أيضا وأستاذة جامعية بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية، رغبت في دراسة الفنون لكن أسرتها كلها تعمل بالمحاماة؛ مما دفعها إلى اللحاق بهم. عندما التقيناها، عرّفت نفسها بداية بأنها امرأة ثم مواطنة ثم محامية ثم فنانة. "لو كنت فنانة فقط، لم أكن لأستطيع الدخول"، هكذا بدا الأمر محسوما.
بعد 14 عامًا مرت على ذكرى الثورة التونسية وزيارة هالة ضمن لجنة نسائية للسجون على مدار ستة أشهر، نعرض كتابها الذي صدر بالفرنسية في صيف 2015 بعنوان "Corridors" أو "ممرات". كما نستدعي بعضا مما جاء في تقرير اللجنة المكون من 1041 صفحة، الذي قدم للرئاسة التونسية في مايو 2012. يعبر الكتاب في ذاته عن ممرات فاصلة بين العالمين الموازيين على جانبي السور وثورة خارجية أحدثت تمردا داخليا عبر 130 صفحة وعشرات الصور المركبة بشكل أبيض في أسود لتحفظ ما بقي للمساجين من كرامة.
لم يكن الكتاب هو العمل الفني الوحيد للمحامية التونسية فقد سبقه معرض عن بيئة السجون ضم مواد سمعية وبصرية عام 2012. احتوى الكتاب على كلمة ختامية لصادق بن مهنى، الناشط اليساري والسجين السياسي السابق، وصدر بدعم من المفوضية العليا لحقوق الإنسان، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، والمعهد الفرنسي، وسفارة سويسرا.
كان الغرض من عمل اللجنة هو الوقوف على حجم الانتهاكات التي وقعت منذ حرق محمد بوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010. وجدير بالذكر أن السجناء الذين التقتهم اللجنة هم سجناء جنائيون وليس بينهم أي سجناء سياسيين فقد أُفرج عن هؤلاء بعفو تشريعي عامّ بعد شهر واحد من الثورة.
في دردشة خاطفة معها بعد أشهر قليلة من صدور كتابها، قالت هالة: "الثورة مكنت المنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال حقوق السجناء من الحديث حول ظروف السجون وانتقاد المعاملة السيئة. لم يكن هذا الحديث ممكنا قبل الثورة فزيارة السجون كانت مقتصرة على الصليب الأحمر الذي يصدر تقارير سرية. وهكذا تتغير العقلية شيئا فشيئا مع غرس ثقافة حقوق الإنسان ومنهم السجناء؛ فشهدنا على سبيل المثال عروضا سينمائية لمهرجان قرطاج داخل السجون وتحسنا في التشريعات بالنسبة للسجناء وتطويرا في المنظومة السجنية من الداخل. التغيير عملية طويلة لكن الإرادة موجودة". وتتبع المنظومة السجنية في تونس وزارة العدل خلافًا لغالبية الدول العربية التي تتبع فيها وزارة الداخلية.
وأضافت هالة: "العقلية العربية ترى في السجن عقابا غير كافٍ فلا بد من أن نزيد عليه التعذيب وسوء المعاملة وهذا نتيجة غياب مبدأ احترام الذات البشرية. برامج التأهيل مثلا موجودة لكن هل هي فعالة؟ هل هناك إرادة حقيقية في تأهيل السجناء أم أن الرأي الغالب هو أن المجرم مكانه خارج المجتمع؟ نفس هذه العقلية ترى الفن حاجة ترفيهية لا تعالج مشاكل اجتماعية ولهذا فالفن ملوش حظ في عالمنا".
فكيف كان يعيش السجناء في تونس وقت الثورة؟ في الخارج "العالم المدني" كما يسميه السجناء وفي الداخل يقبع أحياء أموات.
بين جدران السجن، وجدت هالة خليطا غريبا؛ شبابا مع أولاد صغار سويا مع مجرمين خطرين ارتكبوا كل أنواع الجرائم، وهو ما يتنافى مع المعايير الدولية التي تذهب إلى الفصل بين السجناء حسب نوع الجريمة. وجدت مجرمين صدرت عليهم أحكام مع محبوسين حبسا احتياطيا.
تساءل أحدهم: كيف يُسجن شخص بتهمة إصدار شيك بدون رصيد فيجد نفسه بصحبة قتلة؟ تعجبت من تحول السجن إلى مدرسة للجريمة وليس إلى مكان للتأهيل، يتعلم فيها السجين كيفية الغش والسرقة وحتى القتل. فرض عليك أن تكون رئيس عصابة أو منتميًا لعصابة تحميك فهنا يسود قانون الغاب ويبقى الأقوى الذي يأخذ مال ودخان الضعيف ويغرقه بسخافات ومضايقات. إذا زُجّ بأحد ظلما ولم يكن مجرما فسيتعلم الإجرام داخل الأسوار مع هذه الصحبة، هكذا قال سجين رسم "وشما" على قدمه يحمل اسم "انتقام" مستخدما إبرة وعلبة زبادي محروقة.
المعتاد أن يصدر حكم القضاء قبل انتهاء فترة الحبس الاحتياطي وهي ستة أشهر، لكنه أحيانا يتأخر عن ذلك.
للسجن لغته وقاموسه الخاص، فكما في مصر قضايا "الآداب" هي مرادف لقضايا مرتبطة بسوء السلوك الاجتماعي، ففي تونس قضايا "الأخلاق" مرادفا للجرائم الجنسية و"الروح" مرادفا للقتل، و"كونفا" مرادف للترحيلات التي يعاقب بها السجناء فيُنقلون إلى سجون بعيدة ليحرموا من رؤية ذويهم في الزيارات ممن لا يملكون تكاليف الانتقال فضلا عن المشقة وعدم الثقة في إتمام الزيارة التي قد تلغيها إدارة السجن بعد انتظار الأهالي ساعات. يفترض أن يتم توزيع السجناء على السجون حسب أماكن سكنهم لكن هذا لا يحدث. الـ"كونفا" حالة دائمة، كما تقول هالة.
تقتصر الزيارات على أقارب الدرجة الأولى من جد أو حفيد أو أخت، أما الأم فتأتي غالبا بالأطعمة المحببة لابنها من غير الطواجن والمحاشي التي لا يسمح بإدخالها بعد أن أتت بعض الأمهات بـ"المرهوجة"، وهي أكلة تونسية عبارة عن العجة التقليدية مع إضافة مادة الزطلة المخدرة، في الزيارة لإرضاء إدمان أبنائهن السجناء؛ فأصبحن "محل شك". البعض يستغل الزيارات لتهريب أقراص المخدر في حبات البازلاء، أو أمواس في الخبز وكعب الحذاء لتُستخدم سلاحًا داخليًّا، كما ذكر الكتاب.
أما الزوجة فتذهب لزيارة زوجها وبداخلها مشاعر الحرمان والاشتياق، لكن العلاقات الزوجية من المحظورات لا يتحدث عنها أحد لا السجناء ولا السجانين ولا الزائرين بالطبع، رغم أنها تؤرق الكثيرين. لم تعد بعض الممارسات غير الأخلاقية سرا فقد طالب البعض بمكان خاص لهم وهو ما حدث بالفعل في سجن "مورناجيا" كما قال أحد الحراس لهالة.
تقر بعض الدول حق السجين في زيارة زوجية خاصة، لكن كيف تحدث في سجون تونس والزيارة تكون بالنظر إلى عيني السجين فقط من خلف القضبان؟ حتى جسمه لا يرى فقط جزء من وجهه. بعض السجناء الذين يتلقون معاملة خاصة يحصلون على مكان للزيارة تكون فيه الرؤية أوضح عبر الزجاج بلا قضبان ويكون التواصل فيه عبر التليفون. البعض أيضا يحصل على غرفة زيارة يقابل فيها ذويه وجها لوجه ويستطيع ملامستهم. مدة الزيارة في هذه الغرفة لم تكن تزيد عن 20 دقيقة وفي وجود حارس.
الانتحار أيضا من المحظورات. بعض المحاولات نجحت وبعضها فشل. الكيفية؟ إيذاء النفس باستخدام الأدوات المهربة حتى يتم احتجازهم من قبل قسم التمريض ويحاولون من هناك الهرب.
"الحبسة بتجنن. تعقد فيها صداقات مع الصراصير والنمل فهي المؤتمن الوحيد على الأسرار والرابط الوحيد بالعالم الخارجي لأنها تتمتع بحرية الحركة" هكذا ملخص الحال.
سجن "منوبة" للنساء هو الوحيد المخصص لهن، وقد تم بناؤه حديثا أما باقي السجون فبها أقسام للنساء، وهو أفضل حالا من السجون الأخرى فلكل سجينة سريرها الخاص كما تشخصن كل منهن "مطرحها" بحاجيات وألوان بسيطة.
تشكو سجينة من أن المرأة في السجن "وصمة عار" على الأهل الذين ينقطعون عن زيارة ابنتهم بعد فترة بعكس السجناء الرجال الذين تسامحهم أسرهم.
هكذا استقبل المساجين هالة في عنابرهم. عشرات المساجين مكدسون بأمتعتهم وحاجياتهم في غرف بلا تهوية أو ضوء سوى فتحات ضيقة في السقف. في الصيف ومع اشتداد الحرارة، تجد بعض المساجين جالسين على جرادل مقلوبة ونصفهم العلوي عارٍ يلمع من العرق. يقول أحدهم: "كأننا في ساونا. الفرق أننا نعيش فيها بشكل دائم".
وتعاني السجون التونسية من نقص الإمكانيات خاصة أن معظمها بني في بدايات القرن العشرين، وبعضها تحول إلى سجن وقد أنشئ لأغراض أخرى، أي أن متطلبات السجون لم تراعَ عند البناء، مثل سجن "برج الرومي" ببنزرت الذي أنشئ عام 1965 ثكنةً عسكرية إبان الاستعمار، وتم تحويله إلى سجن في أعقاب الاستقلال.
تقول هالة إن كل السجون تستوعب ضعف طاقتها، أسِرّة حديدية لاصقة في الحوائط من دورين وثلاثة يضم كل سرير أكثر من نائم في حين لا يجد البعض مساحة فتكون الأرض منامه، وممر ضيق يؤدي إلى الحمام الذي يكون أحيانا بلا باب. الاستحمام مرتان أسبوعيا، هكذا تقول النظرية لكن الواقع العملي شيء آخر؛ مما تسبب في انتشار الأمراض الجلدية ومشاكل التنفس. الأكل والدخان يكون داخل العنابر أيضا لغياب "الكانتين" أو صالة الطعام. بعض المساجين خلعوا حديدًا من الأسرة واستخدموه سلاحًا ضد الحراس؛ ليتم خلع كل الحديد من الأسرة بعد ذلك بقرار من إدارة السجون.
يختلف سجن "المهدية" بعض الشيء فتدخله إضاءة جيدة، كما أن باب السجن الحديد ملون وتزينه بعض اللوحات، ربما ليتماشى مع طبيعة مدينته السياحية سيدي بوسعيد.
كانت بعض السجون مسرحا للاضطرابات المصاحبة للثورة؛ فهرب منها أكثر من 10 آلاف سجين وشهدت أعمال حرائق وسرقات وعنف واغتصاب راح ضحيتها البعض. عرف السجناء ما يحدث في "العالم المدني" (أي خارج السجن) عبر التلفزيون الذي يعرض لهم اختيارات الإدارة من برامج دينية ومسلسلات وأخبار، لتشجعهم أخبار الثورة على التمرد، كما تروي هالة.
سجل سجن "المنستير" أعلى معدلات الوفاة في السجون التي شهدت 86 حالة وفاة وقت الثورة حين ملأ بعض السجناء المراتب بالزيت وحرقوها بالولاعات على أمل إحداث فوضى تخرجهم مما هم فيه لكنهم لم ينجحوا وكانت النتيجة موت 49 سجينا بين محروق ومخنوق، أما المصابون فلم يأت أحد لمداواتهم وكان كل علاجهم معاجين الأسنان التي اشتروها من السجن لتهدئة الحروق. ما زالت الآثار واضحة على هؤلاء تحتفظ هالة بها في ذاكرتها.
السجينات أيضا حاولن الهرب مع خوفهن من أصوات ضرب النار بالخارج فحاولن إشعال النار في المراتب لكنهن فشلن، فلم ينتظرهن سوى العقاب. جاءت الحارسة وجردت إحدى السجينات من ملابسها وأتت بحراس رجال صبوا عليها ماء باردا (كان الوقت شتاء) وأشعروها بالخوف لما يمكن أن يفعلوه بها. هذا فضلا عن الحبس الانفرادي.
صورة للحبس الانفرادي بأحد السجون (صورة من الكتاب)في سجن "برج الرومي"، استولى بعض المساجين على المنشطات من صيدليات السجون وسرقوا السكاكين وأنابيب الغاز وضربوا الحراس بالقضبان الحديدية الخاصة بالأسرة وبلوكات الصابون التي ركبوا لها الأمواس المهربة حتى أصبحت سلاحا فعالا. اندلعت اشتباكات واسعة في السجن استمرت عدة أيام أطلق فيها الحراس قنابل الغاز داخل غرف السجناء ومارسوا عليهم حرب تجويع لم تستمر أكثر من ثلاثة أيام بعدها أعطوهم الخبز الناشف من فتحات السقف. مات الكثيرون ومن بقي وثبت تورطه في هذه الاحتجاجات تم اقتياده لغرفة منعزلة ربط فيها من يديه ورجليه بالسلاسل في الحائط. هكذا كان العقاب الشديد لاحتجاجات السجون.
في "برج الرومي" أيضا، حدثت واقعة اغتصاب لسجين صغير كان ضحية اغتصاب جماعي، وجرت واقعة أخرى في سجن "المسعدين"، الذي تعرض قسم النساء فيه لحريق ثم هجوم من سجناء رجال اغتصبوا فيه سجينة. الواقعتان تكذبهما إدارة السجنين وقد شهد الحراس بوقوع الواقعة الثانية إلا أنهم عادوا فنفوا ذلك.
هم يرون أن نظام السجون فاسد والتعيين والترقي يعتمد على "الواسطة"، ولا يجدون سوى السجناء متنفسا فيصبون غضبهم عليهم وتقع مشاجرات كثيرة، كما تقول هالة، حتى إن بعض الحراس يغارون من بعض المساجين "المهمين" المرفهين. ليس لديهم صالة طعام ولا راتب مجزٍ. السجانة في نظر المجتمع هي "عشماوي" وليست "حامية للبلد". التدريبات تخصص للأعلى درجة وليس للجميع. ترى هالة أن هناك مبالغة في الشكوى مع إدراك الضغوط الاجتماعية على السجانين.
يقول أحدهم: "أنتم لا تهتمون سوى بالمساجين وتنسونا. أحيانا يحصل المساجين على معاملة أفضل منا، عندما يحتاجون لرعاية طبية يوفرها السجن مجانا وقد يغطي لهم مصاريف إجراء عمليات في أفضل المستشفيات دون مقابل، وهو امتياز لا يحق لنا وكأننا أقل منهم".
العنابر (صورة من الكتاب)تروي هالة: بعض السجون مثل "المهدية" و "هوارب" و"القيروان" و"السرس" و"الكاف" صُمّمت لكي تكون مفتوحة وفيها أنشطة خارجية كالزراعة وتربية النحل وغيرهما، لكن المساجين فقدوا خوفهم من السلطة ولم يعودوا يطيعون أوامر سجانيهم كما كانوا؛ فخشي الحراس مصاحبتهم في الأنشطة الخارجية؛ مما أدى إلى وقفها.
أما من أثبت "حسن سير وسلوك" أو "أرضى الإدارة" في بعض السجون فلهم أن يدرسوا ويحصلوا على الدبلومات ومنهم من يطور مهاراته لكي يصبح نجارا أو حرفيا أو فني كمبيوتر أو حلاقا. في سجون قليلة، يشتغل السجناء بالموزاييك. وفي سجن "مرناق"، جُهزت صالتا تنس الطاولة والكمبيوتر لكنهما بقيتا كالديكور خاليتين من أي سجناء. كذلك الأمر بالنسبة للأجهزة الرياضية في سجن "منوبة" النسائي.
بعض السجون تضم مكتبات لكن الإقبال ضعيف على القراءة؛ لأن الكتب المتاحة فيها موضوعاتها غير جذابة والمساجين معظمهم أميون أو تعليمهم محدود. يستعيض مسؤول الأنشطة الثقافية عن ذلك بتوزيع الكوتشينة أو الدومينو وأحيانا يلعبون كرة القدم، ويكون ذلك في حالات محدودة؛ لأنها تشعل المشاجرات بين المساجين كما أن الأرضية بلاط وربما تتسبب في إصابات بالغة للاعبين. لكل سجين نزهة صباحية ومسائية في الحوش، وأحيانا تكون واحدة فقط، والأحواش بعضها أعلاه مفتوح إلى السماء وبعضها له سقف حديد.
في سجن "المنستير"، لا يوجد زي رسمي للسجناء ويظلون بملابسهم التي دخلوا بها السجن، أما الملابس التي توزع في بعض السجون فلا تقي من برد الشتاء؛ مما يدفع السجناء الأغنياء إلى العطف على زملائهم الفقراء. الطعام كمياته قليلة يوضع في جردل مرتين يوميا ويخلو من الخضار الطازج، والفاكهة ويمكن للسجناء شراؤها من السجن. لا توجد لحوم إلا قطع أجنحة يقول السجناء إنها مجرد عظام.
تبيع السجون كوبونات الدخان والمشروبات الغازية والأكل والمنتجات الصحية لسجنائها الذين يحصلون على المال من ذويهم في الزيارات. وفي سجن "منوبة" يمكن عمل طلبات بيتزا. تقول إحدى الحارسات إن السجن لا يملك مالا أصلا، لكنه يجني ثروة وهو مكان تجارة لأن هناك محلات بالسجون. ويعد سجن "المرناقية" هو الأغلى.
قيود السجن (صورة من الكتاب)عند زيارة اللجنة، كان عدد المحكوم عليهم بالإعدام 140 سجينا وقد نقلوا جميعا إلى سجن "المرناقية" لقضاء ما بقي لهم من عمر في "ممرات الموت" التي عزل فيها بعضهم أكثر من 20 عاما وأصاب الجنون البعض. هم هزلاء، لا يزورهم طبيب السجن إلا نادرا، نسوا لون السماء، وأشكال أحبائهم، ذكرياتهم يمحوها مرور الوقت.
عادة ما يحوّل حكم الإعدام الصادر نظريا إلى السجن المؤبد عمليا أي أن التنفيذ "موقوف"، فمنذ عام 1991 لم ينفذ حكم إعدام في تونس كما عبر زين العابدين بن علي صراحة عن رفضه لهذا الحكم إثر توليه السلطة في 1987. وبحلول ذكرى الثورة التونسية كل عام، يتم العفو عن مزيد من المحكوم عليهم بالإعدام لتخفف العقوبة إلى السجن المؤبد.
زيارة اللجنة أحدثت هرجا بين المساجين، واختلفت ردودهم، فحاول "فوزي" الأمي، المحكوم عليه بالإعدام لقتله طفلة، أن يسرب خطابا إلى هالة أثناء الزيارة ليبيّن لها أنه بريء لكن الخطاب صودر من إدارة السجن، بينما رفض البعض الحديث لشعورهم بالتهديد قائلين "لما نخرج نبقى نحكي". بعض السجناء قالوا إنهم أبرياء وإنه تم انتزاع اعترافاتهم تحت تأثير التعذيب، وإنهم لم يملكوا مالا كافيا لتوكيل محامين.
Au Revoir"" هكذا ودع سجين في العشرين من العمر هالة عند انتهاء الزيارة التي لم تتكرر؛ فبعد مرور عام واحد على عمل اللجنة، حاولت هالة مجددا عبور الأسوار إلى الداخل في إطار عمل حقوقي تابع لإحدى المنظمات التونسية غير الحكومية فلم يُسمح لها بذلك، لتكون الزيارة الأولى والأخيرة كأنها حلم عابر.
واليوم، بعد 14 عامًا، هل يمكن للمنظمات التونسية غير الحكومية زيارة السجون؟
————————————————————————————–