آخر الأخبار

عن تنابز السّاحات واستنزاف الذّات.. معاركنا التي يحبها العدو

شارك الخبر

في مجموعة من مجموعات الواتس اب التي تضمّ قرابة مئتين من النخب الفكريّة من مختلف بلدان العالم الإسلامي ومن مختلف التّيارات الفكريّة المتناثرين على مساحة الكرة الأرضيّة والذين يتوقّعُ منهم أنّهم قادة الرأي والفكر في مجتمعاتهم وواقعهم وهم الذين تجمعهم آلام كبيرة وقضايا كبيرة؛ لم يهدأ غبار المعارك من شهور عدة، وتستطيع أن تعاين فيها وفي مثيلاتها من المجموعات اتساع الشّروخ الكبيرة بين أبناء الأمة الواحدة والجراح الواحدة.

ولعلك تستشعر أنّ الحديث عن مجموعة أنت منخرطٌ فيها فما هذه المجموعة إلا نموذج للحال السائدة في عموم المجموعات التي تحولت من مساحات آمنة للحوار وتبادل الأفكار إلى حلبات مصارعة فكريّة، فإذا خرجت قليلًا إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ الأخرى ستجد نفسك في خضمّ أمواج متلاطمة وسهام تتراشق ذات اليمين وذات الشمال وأنت تحني رأسك تارة وتغطي وجهك بمرفقك تارة أخرى خشية أن تصيبك سهامها الطائشة، لتداهمك منشورات تلتهب نارًا وتتدحرج فتحرق معاني الأخوّة.

 

في معالم الاشتباك البيني

"بينما هم في غمرة انقسامهم على أنفسهم إذ برز عدوٌّ يرفع شعار الصّليب يريد القضاء عليهم واقتلاع الإسلام من جذوره، وقد قدمت أُولى الحملات الصليبية سنة 492هـ وقال عنها ابن الجوزي: وردت الأخبار بأنَّ الإفرنج ملكوا أنطاكية ثم جاؤوا معرّة النّعمان فحاصروها، وقتلوا ونهبوا وقيل: إنّهم قتلوا ببيت المقدس سبعين ألف نفس".

هذه العبارة الموجعة التي ينقلها الشّيخ محمّد الغزالي في كتابه "هموم داعية" تصفُ اشتباكنا البينيّ، وتلخّص الكثير من أحوالنا بين يدي الحوادث العظيمة والتحوّلات الكبيرة التي تستهدفنا جميعًا دون استثناء فيما مضى وفيما هو قائم وما هو قادم.

ومثلها ما ينقله أحمد الشّقيري في كتابه "معارك العرب" عن مشهد يفطر القلب عن أحوال المسلمين وتصارعهم عند هجوم الصّليبيين على أنطاكية إذ يقول: "وامتدّت المعركة شهورًا مضنية، كان يجري فيها القتال، في داخل المدينة وفي خارجها، وعلى أبراجها وأسوارها، وبين شوارعها وساحاتها، والحامية العربية تستصرخ وتستنجد، ولا مجيب ولا مجير. وكانت حلب ودمشق أقرب الحواضر العربية إلى أنطاكية، وهما أولى بالنجدة من غيرهما، ولكن الذي جرى أن الصّراع كان على أشده بين الأخوَين العدوَّين الألدَّين؛ رضوان ملك حلب، ودقّاق ملك دمشق، وكانت الحرب ناشبة بينهما حين وصلت قوات الإفرنج إلى أسوار إنطاكية"

ومن التاريخ الى الواقع، وكما ترى فإنّ المنطقة كلّها يعاد تشكيلها من جديد حقيقة لا مجازًا، والخرائط يجري الآن رسمها بأقلام أعدائنا وليس في أيدينا منها بقيّة قلم أو جذاذة حلم، والنّار تحرق أثوابنا كلّنا بينما نشدّ تلابيبنا في معاركنا البينيّة.

وإنّ وجودنا المهدّد يجعل المرء يحار في انشغال أصحاب القضايا العادلة ــ وهي إلى جانب عدالتها ساخنة متدحرجة ــ بالصّراع فيما بينهم بينما عدوهم أو أعداؤهم يصوغون للمنطقة وإنسانها وجهًا جديدًا؛ فمنذ سنة والحرب على أشدّها إبادةً وتوسّعًا، ويزداد المشهد تشابكًا وتعقيدًا، وتزداد الصورة تركيبًا وتداخلًا، ونحن نزدادُ حفرًا للأخاديد العميقة بيننا، ونحن على اختلاف أقطارنا وبلداننا مكلومون يجمعنا الدّم الراعف والجرح المفتوح وعدالة القضيّة ومجابهة الظالم محتلًا ومستبدًّا؛ فعلام يحدث هذا كلّه؟! وفي ظلال كل ذلك أجد أن ثمة ملاحظات حاضرة في خطابنا العام في زمن الحرب، أجملها في التالي.

  • أولا: التوسّع في التأويل الاتّهاميّ

التحفّز الغاضب، والتوثّب الانفعاليّ، وسوء الظنّ القائم على التّصورات الذّهنيّة المسبقة يجعل الكثيرين يتعاملون مع أيّة عبارة تُقال، أو تصريح من أيّ جهة، أو مقال تفسيريّ أو تحليليّ، أو محاولة توضيحيّة، أو مصطلح متداول بصيغة اتّهاميّة من خلال إخراج العبارات والأقوال عن ظاهرها وصياغاتها اللفظية إلى ما يرونه لازمَ القول، أو المفهومَ منه، فيصدر القرار مباشرة أنّ هذا القول يلزمُ منه مناصرةٌ لمستبدٍ في ساحةٍ أخرى أو رضى بجرائم محتلٍ بحقّ شعب مكلوم، أو مناصرةَ محتلٍّ في إبادته، وهذا من التعسف في التّعامل مع الأقوال والتّصريحات والمقولات والمقالات.

إذ قرّر أهل الأصول والمنطق أنّ "لازم القول ليس بلازم" وما يلزم من القول ليس بقولٍ أبدًا، فما نراه لازمًا من قول أو عبارة لا يجوز أن نتعامل معه على أنّه مراد القائل أو غايتُه إلّا إن صرّح هو بذلك، فما بالك إن لم يكن هذا لازم القول أصلًا بل محض معنىً تأويليٍ بعيدٍ ليس أكثر، ومن ذلك أنّ شكر جهة أو شخص على موقفه في موضعٍ معيّن ومدحه فيه لا يلزم منه على الإطلاق القبول بأفعاله في غير هذا الموضع فضلًا عن القول بتأييدها ومدحها.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 16/461: "ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبًا، بل أكثر الناس يقولون أقوالًا ولا يلتزمون لوازمها"، ويقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" 1/172: "لا يجوز أن يُنسب إلى مذهبٍ من يُصرِّحُ بخلافه، وإن كان لازمًا من قوله" وكذلك يقول ابن حزم في "الفصل في الملل" 3/139: "وأما من كفَّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفرًا"

مصدر الصورة
كتاب مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (مواقع التواصل)

فكثير من الأحكام الاتهاميّة والمعارك الثائرة منطلقها ما يراه أصحابها لوازم للأقوال، ولو أنّهم توقّفوا عند حدود القول وقرؤوه بنفس هادئة لانطفأت شعلة الغضب في النفوس، ثمّ انظر إلى ما يقوله الشيخ ابن عثيمين في "القواعد المثلى" ص12: "أن يكون اللازم مسكوتا عنه فلا يذكر بالتزام ولا منع، فهذا حكمه ألا ينسب إلى القائل، لأنه إذا ذكر له اللازم: فقد يلتزمه، وقد يمنع التلازم، وقد يتبين له وجه الحق فيرجع عن اللازم والملزوم جميعًا، ولأجل هذه الاحتمالات لا ينبغي إضافة اللّازم إليه، لا سيما أن الإنسان بشرٌ يعتريه ما يعتريه ممّا يوجب له الذّهول عن اللّازم، فقد يغفل أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تدبّر في لوازمه، ونحو ذلك" فإن كان لا ينبغي لنا أن ننسب إلى القائل لازمَ قولِه إعذارًا له وتفهُّمًا لحاله فلعلّه قاله في مضايق المناظرات؛ أليس أولى أن نفعل ذلك مع من يعيش إكراهات السّياسة ومخاطر المعركة وتعقيدات المواجهة في واقعٍ بالغ التّشابك والتّركيب؟!

ومن التوسّع في التأويل الاتّهامي التعسّف في استعمال مفهوم المخالفة في التصريحات أو المصطلحات، ومن ذلك على سبيل المثال إطلاق مصطلح "القضيّة المركزيّة" إذ يتمّ التعامل معه على أنّه يلزم منه تسفيه بقيّة القضايا العادلة وأنّها هامشيّة لا قيمة لها، والمصطلح لا يدلّ من قريب أو بعيد على تهميش أيّة قضيّة أو التقليل من شأنها، فالنبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: "الحجُّ عرفة" فهل يمكن أن يفهم أحدٌ من هذا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم يهمّشُ أو يقلل من مكانة أو ركنيّة بقيّة أركان الحجّ كالإحرام والسّعي بين الصّفا والمروة وطواف الإفاضة مثلًا؟! فهذه الأركان تبقى على أهميتها لا يصحّ الحجّ دونها، ولا يقوم إلّا بها؛ فإطلاق مصطلحٍ توصيفيّ لا يجوز التّعامل معه على أنّه يراد منه تسفيه أيّة قضيّة أخرى أو التقليل من شأنها.

إنّ التوسّع في التأويل الاتهاميّ هو الصّفة السائدة اليوم على أنّ الأصل في وقت الأزمات تغليب التأويلات الإعذاريّة لا الاتهاميّة لأنّ الإبقاء على روابط الأخوّة ووشائجها هو الأصل.

ولله درّ الملا علي القاري حين يقول في "شرح الفقه الأكبر" ص62: "ذكروا أنّ المسألة المتعلّقة بالكفر إذا كان لها تسعةٌ وتسعون احتمالًا للكفر واحتمال واحد في نفيه، فالأولى للمفتي والقاضي أن يعمل بالاحتمال النّافي، لأنً الخطأ في إبقاء ألف كافر أهون من الخطأ في إفناء مسلم واحد" ومثل ذلك أيّة مسألة لها تسعةٌ وتسعون وجهًا في تحطيم ونفي الأخوّة الوثيقة بين أبناء القضايا العادلة والجراح المفتوحة ووجهٌ واحد في إبقائها وتوثيقها فعلى العقلاء العمل بما يوثّقها لا بما ينفيها.

 

  • ثانيا: إشهار سيف الولاء والبراء في المحتملات

ممّا يزيد التشظّي ويعمّق الهوّة ويوسّع الأخاديد النّكدة تحويل الظنيّات إلى قطعيّات، والفروع إلى أصول، وما يتسع للخلاف من الفقهيّات إلى أصول اعتقاديّة لا تقبل الاختلاف أبدًا.

ولقد اعتاد الناس تغليفَ انتقادهم للسّلوك الذي لا يرضَونه دائمًا بغلافٍ يؤثّر في الجماهير ويقرّع المخالف، ومن أخطر الأثواب التي يتمّ إلباسُها للجهات الفاعلة عند عدم الرضى عن موقف أو سلوك ثوب الولاء والبراء.

وتكمن خطورة إشهار سيف الولاء والبراء في تحويل الاختلاف في وجهات النّظر السياسيّة والتّنازع في تقدير الأولويّات القائمة على المصلحة التقديريّة الاجتهاديّة في القضايا المتشابكة إلى خلافٍ عقدي يوجب البراءة من المخالف وإعلان موقف شرعي منه، وإخضاع المواقف السياسية المحتملة لهذا المفهوم فيه إخلالٌ باستخدامه من جهة وإبرازٌ لإشكالٍ حقيقي في طبيعة العلاقة الواجبة بين أبناء الثّغور المتعدّدة والساحات المشتعلة الذين يفترض أن ينظمهم عقد الأمة الواحدة.

ومما لا شكّ فيه أنّ مصطلح "الولاء والبراء" من أكثر المصطلحات التي راجت في العقود الخمسة الأخيرة في الخطاب الإسلامي؛ وتمّ التوسّع في معناه توسعًا أبعد من ضفافه التي يرسمها المفهوم القرآنيّ، وبنيت عليه مواقف وشنّت استنادًا إليه حروب فكريّة واعتقاديّة، وحكم على كثيرين تعسّفًا بالكفر والتّفسيق والتّبديع والتّضليل، ومما لا شكّ فيه أيضًا أنّ التّعامل الدّعوي مع هذا الخطاب شكّل الحالة النفسيّة والمشاعريّة تجاه الآخر، غير المسلم أو المسلم المخالف بالتوجّه الفكريّ والاعتقادي والسياسي.

وعند التعامل مع مفهوم الولاء والبراء لا بدّ من مراعاة التّقاطع والتّداخل في التوافق والتعارض في العلاقات مع المعت ....

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك الخبر

إقرأ أيضا