تخيلوا أنكم تسمعون من حولكم وتشعرون بوجودهم، لكنكم عاجزون عن رؤيتهم بوضوح أو التفاعل معهم.
تخيلوا أنكم تعيشون شهوراً، وربما سنوات، وأنتم في حالة وعي معلّق، لا تعلمون إن كانت تفاصيل ما تعيشونه خيالاً أم حقيقةً.
غالباً ما نسمع العبارة الشهيرة: استفاق أو استفاقت بعد غيبوبة. عبارة تشبه حكايات الخيال، كقصة الأميرة النائمة التي أيقظتها قبلة بعد سبات طويل.
لكن ما هي الغيبوبة حقاً؟ ماذا يشعر المصاب خلالها؟ هل يعود؟ وكيف تكون حياته بعد الاستفاقة؟
أثارت وفاة الأمير السعودي الوليد بن خالد بن طلال، المعروف إعلامياً بالأمير النائم، بعد 21 عاماً من الغيبوبة إثر حادث سير، هذه الأسئلة من جديد. وحاولت بي بي سي نيوز عربي الإجابة عنها من خلال لقاء مع طبيبة مختصة وناجٍ من غيبوبة.
في عام 2016، وأثناء إحدى موجات أزمة النفايات في لبنان، أصيب طارق زينون، وهو طالب جامعي يبلغ من العمر 18 عاماً، بفيروس ناتج عن استنشاق هواء ملوث.
تدهورت حالته بسرعة، ودخل في غيبوبة استمرت شهراً ونصفاً. لم تكن حالته الوحيدة، إذ يقول لبي بي سي عربي إن تسعاً أو عشراً من الحالات سجلت في تلك الفترة بسبب الفيروس ذاته، من بينها صديق له استفاق بعد ثلاثة أيام.
توضح الدكتورة نانسي معلوف، الأستاذة المساعدة في علم الأعصاب في المركز الطبي التابع للجامعة اللبنانية الأميركية، أن الغيبوبة تعرف طبياً بأنها فقدان تام للوعي نتيجة اضطراب كبير في وظائف الدماغ.
وتشير إلى أن أسباب الغيبوبة متعددة، منها إصابات الرأس كالنزيف أو الجلطات، أو حوادث السير، أو التسمم، أو النقص الحاد في الغذاء، أو الجرعات الزائدة من الأدوية والمخدرات، أو حتى الصدمات النفسية الشديدة.
وتؤكد أن الغيبوبة ليست درجة واحدة، بل تتفاوت من حالة إلى أخرى. "في الغيبوبة العميقة، لا يرى الشخص شيئاً ولا يسمع. أما في الحالات الأخف، فقد يشعر بوخز إبرة مثلاً أو يتخيل أشياء".
وتضيف أن احتمال العودة من الغيبوبة يختلف عن حالة الموت الدماغي، الذي يعني توقف كل وظائف الدماغ بما في ذلك جذعه، وهو حالة لا عودة منها ويصنف قانونياً وطبياً كوفاة.
وكلما طالت مدة الغيبوبة، زادت المخاطر. إذ قد يعاني المصاب من جلطات في الأطراف أو تقرحات جلدية أو ضعف في المناعة.
يروي طارق أنه شعر بألم مفاجئ في مؤخرة رأسه، فخلد إلى النوم مساءً واستفاق بعد نحو 24 ساعة، لكنه لا يذكر إن كان قد استيقظ في ما بينها. تقول والدته إن عينيه كانتا ترتعشان يميناً ويساراً حين أيقظته، وهو لا يزال يصر، حتى في تلك اللحظة، على أنه بخير ولا حاجة لنقله إلى المستشفى.
دخل المستشفى دون أن يفقد وعيه بالكامل، لكنه لا يتذكر شيئاً من تلك اللحظات. وبعد نقله إلى مستشفى آخر، دخل في غيبوبة تامة.
يقول: "بقيت فاقداً للوعي بشكل تام لأسبوعين، فتحت عينيّ في الأسبوع الثالث لكن دون أي تفاعل أو إدراك".
ويتابع: "لا تحدثني عائلتي كثيراً عن هذه المرحلة. يقولون لي إنني لم أكن أتفاعل إلا في لحظات قليلة، حين كنت أحرّك عينيّ دون أن أفتحهما".
مرّ أكثر من شهر ونصف حتى بدأ طارق يتعرف من جديد إلى الوجوه والأسماء التي يعرفها. واستعاد وعيه وذاكرته كاملاً مع بدء رحلة إعادة التأهيل في مستشفى آخر.
"أتذكر شيئاً واحداً من مرحلة الغيبوبة، أتذكر أني وقفت على قدمي ومشيت خطوات قليلة لأجد أمامي نحو 40 شخصاً من أصدقائي الذين كانوا يزورون المستشفى يومياً دون أن أعلم، رأيتهم ولكني عانيت حينها من هبوط مفاجئ وفقدت وعيي من جديد لأيام قليلة".
لا يملك طارق صورة واضحة حتى للأشياء التي يتذكرها، ويقول إن الأدوية التي وصفت لعلاجه كانت لها آثار جانبية، من بينها فقدان الذاكرة.
شخص الأطباء حالة طارق بأنه التهاب دماغ ناتج عن فيروس أو عدوى بكتيرية.
يروي طارق أن عائلته لم تفقد الأمل: "الخوف كان كبيراً، وخاصة لدى أصدقائي الذين صدموا عند رؤيتي في المستشفى. الدتي كانت تحاول دائماً أن تتحدث معي خلال غيبوبتي".
خلال فترة التأهيل، خضع لسلسلة من التمارين الخاصة بتنشيط الدماغ من جديد، بالإضافة إلى تمارين للعضلات لأنه خسر 14 كيلوغراماً من وزنه، وتمارين للذاكرة.
قال: "عند خروجي كنت أعاني من ارتعاش شديد في اليدين، لدرجة أنني لا أستطيع الكتابة".
خضع طارق لعلاج فيزيائي وعلاج نفسي واستعاد معنوياته ونشاطه الذهني والجسدي ببطء وبشكل تدريجي.
تعد الغيبوبة من الحالات الطبية المكلفة، فالمكوث في المستشفى ضروري بحسب المدة التي تستغرقها العودة أو الاستفاقة، بالإضافة إلى العلاج والتأهيل ما بعد الخروج من المستشفى. والتكلفة قد تكون ذاتها في حال انتقال المصاب إلى منزله.
تقول الطبيبة نانسي معلوف إن الشخص في الغيبوبة يحتاج إلى التنفس طوال الوقت، وفي بعض الحالات البالغة، يتنفس المريض من خلال القصبة الهوائية.
"عادة لا يسمح للمريض بمغادرة المستشفى، وإن حدث ذلك، فهو بحاجة إلى مراقبة الأوكسيجين يومياً على مدى 24 ساعة".
لم يخرج طارق من منزله لفترة بعد عودته من الغيبوبة لأن مناعته كانت ضعيفة.
"بعد انتهاء فترة علاجي وعودتي إلى الجامعة، شعرت مرة بنوبة هلع قوية على شكل دقات قلب قوية".
قالت له طبيبته المعالجة إن ما يمر به لن يكون سهلاً، لكنه أمر طبيعي لأن هذه المرحلة التي يبدأ فيها الدماغ بالاتصال بأصوات وصور شاهدها طارق في مرحلة ما، دون أن يدرك ما هي هذه الأصوات والصور.
يقول طارق إن هذه "المعلومات" التي بدأ الدماغ بتلقيها في ما بعد لم تكن مفهومة، لكنها تتخم الدماغ وتجعله ثقيلاً.
"أصبت أكثر من مرة بعد ذلك بنوبات هلع كانت تأتي في أي مكان وأي وقت ودون أي سبب أو مناسبة".
يروي كيف كان فحص التصوير بالرنين المغناطيسي يصيبه بالهستيريا، ويربط ذلك بوضعية نومه خلال الغيبوبة.
ومع تقدم جلسات العلاج النفسي، شعر طارق بارتياح أكبر
لا يتذكر طارق أي أحلام أو خيالات من فترة الغيبوبة، لكن طبيبته ربطت بين نوبات الهلع وبين الأشياء التي قد يكون رآها خلال تلك المرحلة.
نشرت "بي بي سي ساينس فوكوس" سؤالاً وجواباً حول الأحلام في الغيبوبة.
وأشار المقال إلى أن أدمغة الأشخاص في الغيبوبة لا تظهر أي علامات على دورة طبيعية للنوم واليقظة، ما يعني أنه من غير المرجح أن يحلموا.
ورغم ذلك، بحسب المجلة، يبلغ بعض الأشخاص عند عودتهم من الغيبوبة عن أحلام تسللت إليها أشياء من العالم الخارجي، أو كوابيس تبدو مستمرة.
وفي مقاطع فيديو لناجين على يوتيوب، يروي البعض أنه يتذكر أحلاماً من فترة الغيبوبة، ويقر بعضهم بأنه قد يخلط بينها وبين خيالات أو هلوسات بسبب شعورهم بشيء ما يجري حولهم. أصوات وأشخاص وحركات.
إحدى الناجيات الأميركيات ربطت بين كابوس تتذكره كانت تعاني خلاله من البرد الشديد في ألاسكا - مع أنها قالت إنها لم تزرها يوماً - وربطت بين ذلك وبين العلاج بوضع الثلج على قدميها للحفاظ على دورة دموية نشطة.