منذ عقود، تثير فكرة "المحاكاة الكونية" جدلا واسعا بين العلماء والفلاسفة. وفقا لهذه الفرضية، قد لا يكون واقعنا أكثر من برنامج ضخم، وكل ما نراه ونختبره، كل شيء من الذرات إلى المجرات ما هو إلا أكواد رقمية داخل حاسوب كوني عملاق.
لكن دراسة جديدة من جامعة كولومبيا البريطانية-فرع أوكاناغان تطرح اعتراضا علميا قويا يقول إن الكون لا يمكن أن يكون مجرد محاكاة رقمية، لأن الواقع نفسه يحتوي على جوانب لا يمكن لأي حاسوب أن يحسبها أو يمثلها بدقة.
كان أشهر من اقترح فرضية المحاكاة هو أستاذ الفلسفة من جامعة أوكسفورد نيك بوستروم قبل نحو 20 سنة، وقال إن هناك واحدا من 3 احتمالات لمستقبل الحضارات مثل حضارتنا البشرية في هذا الكون:
لكن هناك ملاحظة مهمة في هذا السياق، فإذا رغبت حضارة ما في بناء محاكاة فإنه من المحتمل أنها ستمتلك القدرة التقنية لصناعة آلاف أو ملايين بل مليارات الصور من المحاكَيات، بالضبط كما نتمكن الآن من تكرار الخوارزميات والبرامج الحاسوبية بأي عدد نريده، وهذا يعني أن الاحتمال الإحصائي الأكبر بفارق كبير إذن هو أننا في صورتنا الحالية نعيش داخل محاكاة.
في الفيزياء توجد فرضيات ترجح بنية شبيهة، منها الكون الهولوغرامي، وكان أول من اقترح هذا المبدأ هو الفيزيائي الهولندي جيرارت هوفت في تسعينيات القرن الفائت، بعد ذلك طور الفيزيائي البريطاني ليونارد ساسكيند هذا المبدأ عبر إدخاله في نظرية الأوتار.
في كتابه "حرب الثقوب السوداء". يقول ساسكيند "إن العالم الثلاثي الأبعاد، بالتجربة اليومية العادية، بما يحتوي من المجرات والنجوم والكواكب والمنازل والصخور والأشخاص، هو صورة ثلاثية الأبعاد، وهي صورة للواقع مشفرة على سطح بعيد ثنائي الأبعاد".
المبدأ الهولوغرامي يفترض أن الكون الثلاثي الأبعاد يمكن قراءته في بعدين فقط، قد يبدو الأمر سخيفا للوهلة الأولى، ولكن عندما يفترض الفيزيائيون أن هذا المبدأ صحيح في حساباتهم، فإن جميع أنواع المشاكل الفيزيائية الكبيرة المتعلقة بطبيعة الثقوب السوداء والتوفيق بين نظريتي الجاذبية وميكانيكا الكم تصبح أسهل بكثير في الحل، بحيث يبدو أن قوانين الفيزياء أصلا تكون أكثر منطقية عندما تكتب في بعدين فقط بدلا من ثلاثة.
لكن بحسب الدراسة الجديدة، التي نشرت في دورية "جورنال أوف هولوغرافي أبليكيشنز إن فيزكس"، فإن الفيزيائي مير فيزال مع زملائه استخدم مفاهيم من الرياضيات المنطقية وخاصة مبرهنة كورت غودل.
هذه المبرهنة التي تعد من أعمدة فلسفة الرياضيات تقول ببساطة إنه في أي نظام رياضي هناك حقائق صحيحة لا يمكن إثباتها داخل هذا النظام نفسه، يعني ذلك أن هناك حدودا لما يمكن للمنطق أو الخوارزميات أن تبرهنه.
وإذا نقلنا هذه الفكرة إلى الفيزياء، فهذا يعني أن الكون لا يمكن أن يكون خاضعا بالكامل لقواعد رياضية أو برمجية مغلقة، لأن هناك ظواهر تتجاوز قدرة الحساب البحت على تمثيلها.
بمعنى آخر، فالحقيقة أوسع من الرياضيات، والواقع أعمق من أي "كود" رقمي يمكن كتابته.
ولكي يكون الكون محاكاة، يجب أن يكون كل شيء فيه قابلا للحوسبة، أي يمكن ترميزه بخطوات محدودة تنفذها آلة)، لكن الفيزيائيين. وبحسب الدراسة، وجدوا أن بعض خصائص الكون، مثل مفاهيم الزمكان الكمي، والطبيعة اللانهائية لبعض المعادلات، وأساسيات الوعي، لا يمكن تمثيلها حسابيا بالكامل.
كما تشير الدراسة إلى أن الوعي البشري نفسه يبدو غير خاضع للقوانين الخوارزمية الصارمة، وذلك يجعل من المستحيل لمحاكاة أن تولد تجربة وعي "حقيقية"، من هذا المنطلق فالعلماء يقولون إن الآلة يمكنها تقليد الذكاء، لكنها لا "تفهم" كما نفهم نحن.
الدراسة تستدعي ما يسميه العلماء "العالم الأفلاطوني"، أي عالم المعاني والمثل المجردة الذي يفوق حدود الزمان والمكان. بحسب هذا التصور، فإن قوانين الطبيعة ليست مجرد تعليمات حسابية، بل "حقائق رياضية" موجودة في مستوى ميتافيزيقي أعلى. هذا يجعل الكون واقعا رياضيا حقيقيا، لا نموذجا مقلدا على خوادم رقمية.
وبكلمات مبسطة، فالحاسوب يمكنه محاكاة قوانين الجاذبية، لكن لا يمكنه "أن يكون" جاذبية حقيقية، كذلك يمكنه رسم مجرة على الشاشة، لكنه لا يستطيع إنشاء مجرة تدور فعلا في الفضاء.
ومن ثم تقدم الدراسة رؤية فلسفية وعلمية جديدة تقول إن الكون ليس مجرد "آلة ضخمة"، بل هو نظام واقعي لا يمكن محاكاته كليا، لأنه يتضمن طبقات من المعنى واللانظام والوعي لا تُختزل في أصفار وآحاد.
من هذه الوجهة، فنحن لا نعيش في لعبة رقمية، بل في كون حقيقي مذهل لا يمكن نسخه، وهو كون ما زال حتى بعد قرون من البحث أكبر من معادلاتنا وأغنى من أي محاكاة.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة