كلمات خلدها التاريخ لعمار بن جامع في مجلس الأمن
الجزائرالٱن _ في الحادي والثلاثين من ديسمبر 2025، تُطوى صفحة استثنائية من تاريخ الدبلوماسية الجزائرية، حيث تنتهي عضوية الجزائر غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي بعد عامين من الحضور الفاعل والمؤثر.
لكن الذي لن ينتهي هو صدى الكلمات التي نطقها السفير عمار بن جامع، الممثل الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة، والتي خلّدها التاريخ كشهادة على زمن سقطت فيه كثير من الأقنعة، وارتفع فيه صوت الحق رغم كل العراقيل.
في نهاية عهدة الجزائر، جاء التتويج الذي يستحقه هذا الدبلوماسي المخضرم، إذ اختارته منصة “باس بلو” الأمريكية المتخصصة في شؤون الأمم المتحدة كـ”دبلوماسي العام 2025″، في اعتراف دولي بمسيرة دبلوماسية تميّزت بالشجاعة والوضوح والثبات على المبادئ.
كما منحه الرئيس عبد المجيد تبون وسام الاستحقاق الوطني تقديراً لجهوده الكبيرة في تمثيل الجزائر.
● “سامحونا يا أهل غزة”: عندما تحدث الضمير
في لحظة نادرة من الصدق الدبلوماسي، افتتح بن جامع إحدى مداخلاته الأكثر تأثيراً بكلمات مؤثرة اخترقت جدران الصمت الدولي، حيث قال بصوت ممتلئ بالأسى والصدق: “أيها الأشقاء الفلسطينيون سامحونا، أنتم في غزة حيث تأكلكم النيران ويخلقكم الركام، والمجلس لم يتمكن من حمايتكم”.
كانت هذه العبارة بمثابة صفعة على وجه المجتمع الدولي، اعتراف صريح بالفشل الجماعي في حماية المدنيين، وفي الوقت ذاته كانت رسالة للشعب الفلسطيني بأن “نحن الجزائريون نسمعكم”.
لم يكن هذا مجرد خطاب دبلوماسي تقليدي، بل كان صرخة إنسانية تجاوزت حدود البروتوكولات لتلامس القلوب قبل العقول.
● “سنعود لندق الأبواب ومعنا أرواح الأبرياء”
بعد استخدام الولايات المتحدة حق الفيتو ضد مشروع القرار الجزائري الداعي لوقف إطلاق النار في غزة، لم يستسلم بن جامع للإحباط.
بل وقف ليعلن بحزم: “لن نكلّ ولن نملّ في العودة في كل مرة إلى مجلس الأمن لإقناعه بمطلب وقف الحرب”. ثم أضاف بكلمات صارت شعاراً للمثابرة الدبلوماسية: “سنعود لندقّ الأبواب ومعنا أرواح الأبرياء في غزة”.
هذه العبارة لم تكن مجرد وعد، بل كانت التزاماً أوفت به الجزائر، حيث عادت مراراً وتكراراً إلى مجلس الأمن، حتى نجحت في تمرير قرار وقف إطلاق النار في مارس 2024 بعد محاولات متعددة، في انتصار اعتبره كثيرون شهادة على قوة الإرادة والإصرار.
● “الصمت ليس خياراً”
في مواجهة التردد الدولي والصمت المريب إزاء ما يحدث في غزة، كانت عبارة بن جامع “الصمت ليس خياراً” بمثابة صفارة إنذار للمجتمع الدولي.
لقد رفض أن يكون الصمت موقفاً مقبولاً، وأكد على مسؤولية مجلس الأمن في اتخاذ موقف واضح يدعم السلم والأمن الدوليين.
هذه الجملة القصيرة والقوية صارت عنواناً لسياسة الجزائر في مجلس الأمن، سياسة قائمة على عدم التهرب من المسؤولية وعدم الاكتفاء بالمواقف الخجولة أو الملتبسة.
● “ماذا سنقول للأجيال القادمة؟”
في مداخلة أخرى مؤثرة، طرح بن جامع السؤال الذي يجب أن يؤرق ضمائر القادة: “ماذا سنقول للأجيال القادمة عندما مات الأطفال بحثاً عن الخبز في غزة؟”.
هذا السؤال لم يكن استنكارياً فحسب، بل كان محاكمة أخلاقية لجيل كامل من القادة الدوليين الذين شاهدوا المأساة ولم يحركوا ساكناً.
● “على مجلس الأمن التصرف بحزم لوقف النار”
بوضوح لافت، شدد بن جامع على ضرورة تحرك مجلس الأمن “بشكل حازم” للمحافظة على ما تبقى من مصداقيته، محملاً المجلس مسؤولية فرض وقف إطلاق النار في غزة.
كان صريحاً في تشخيصه للواقع، حيث أشار إلى أن استخدام الاحتلال للتجويع كسلاح حرب يتطلب تحركاً فورياً وحاسماً.
وفي عبارة قوية أخرى، وصف الوضع بدقة مؤلمة: “مدن القطاع تحولت إلى مدن أشباح، مشاهد تذكرنا بنهاية العالم، وهي فضيعة جدا”.
● “لا يمكن إطعام شعب من السماء”
في انتقاد لاذع للحلول الشكلية، قال بن جامع: “عمليات الإسقاط الجوي ليست حلاً، ولا يمكن إطعام شعب من السماء بينما تُغلق الأرض من تحتهم”.
وأضاف مؤكداً: “الوصول الإنساني التزام قانوني بموجب اتفاقيات جنيف، وليس منّة ولا ورقة مقايضة”.
هذه العبارات كشفت زيف الادعاءات حول تقديم المساعدات، وفضحت استخدام المساعدات الإنسانية كورقة ضغط سياسية بدلاً من كونها حقاً إنسانياً مكفولاً.
● “هذا الصمت تحول إلى مشاركة ناشطة”
في انتقاد حاد لموقف المجتمع الدولي، قال بن جامع: “هذا الصمت قد تحول إلى أكثر من مجرد تواطؤ، بل إلى مشاركة ناشطة في هذه الجرائم”.
كانت هذه العبارة بمثابة صك اتهام واضح للدول التي اختارت الصمت أو التواطؤ مع الانتهاكات.
● تلك الصور .. مواجهة الاحتلال بالحقائق
في لحظة تاريخية، لم يتردد بن جامع في مواجهة ممثل الكيان الصهيوني مباشرة داخل مجلس الأمن، رافضاً “تزييف الحقائق” و”شرعنة القتل الجماعي تحت ذريعة الدفاع عن النفس”.
وفي مشهد رمزي قوي، أشهر صوراً للأطفال الفلسطينيين وهم يحتضرون في وجه ممثل الاحتلال، في وضعية خالدة تداولتها وسائل الإعلام العالمية على نطاق واسع.
● “الأونروا حجر الأساس وحقوق الفلسطينيين لا تسقط بمرور الزمن”
دافع بن جامع بقوة عن وكالة الأونروا قائلاً: “الأونروا حجر الأساس في العمل الإنساني لا سيما في غزة، وعلى مدى سنوات أوضحت السلطات الصهيونية رغبتها في تفكيكها لأنها ترمز للاجئين الفلسطينيين وحقوقهم غير القابلة للتصرف”.
وأضاف مؤكداً: “حقوقهم لا تخضع للتقادم ولا تسقط مع مرور الزمن، ومضمونة بموجب القانون الدولي”.
● “القوة العسكرية لن تأتي بالأمن”
بحكمة استراتيجية، أكد بن جامع أن “القوة العسكرية لن تأتي بالأمن ولا الاستقرار، وأن الاحتلال لن يدوم، والأمن في الشرق الأوسط لن يستتب إلا من خلال حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه”.
● كلمته الختامية: “أدينا واجبنا”
في كلمته الختامية بمناسبة انتهاء عضوية الجزائر، قال بن جامع بثقة وكبرياء: “سوف تغادر الجزائر هذا المجلس وهي تشعر بأنها قامت بما يتعين عليها أن تفعله، وقامت بواجبها”.
ودعا أعضاء مجلس الأمن إلى “العمل بمثابرة” وإشراك جميع أعضاء الأمم المتحدة في أعمال المجلس.
● خارج الملف الفلسطيني: صوت إفريقيا والعالم
لم يقتصر دور بن جامع على القضية الفلسطينية، بل امتد ليشمل قضايا إفريقية وعربية أخرى. دافع عن القضية اليمنية والسودانية والليبية، وعن سيادة الدول ضد التدخلات الخارجية.
وفي مجال مكافحة الإرهاب، قاد الجزائر دوراً قيادياً بصفته رئيساً للجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن.
كما طالب بإصلاح مجلس الأمن، مؤكداً أن “العالم قد تغير كثيراً منذ تأسيس المجلس في 1945 وأن تكوين المجلس لم يعد يعكس الحقائق العالمية الراهنة”. وشدد على ضرورة “رفع الظلم التاريخي عن إفريقيا كأولوية”.
● إرث دبلوماسي خالد
خلال عامين من العضوية في مجلس الأمن، حول عمار بن جامع المقعد الجزائري إلى منصة للدفاع عن القضايا العادلة، ومنبر للصوت الذي يقول الحق دون خوف أو مواربة.
نجح في كسر منطق الصمت والتواطؤ، وفي تسجيل مواقف رسمية تُحسب سياسياً وأخلاقياً للجزائر.
رغم اصطدام مواقفه بجدار الفيتو الأمريكي في كثير من الأحيان، إلا أن قيمة كلماته لا تقاس بالقرارات التي تم تمريرها فحسب، بل بالأثر الذي تركته في الضمير العالمي، وبالرسالة الواضحة التي أرسلتها للشعوب المستضعفة بأن هناك من يسمعها ويدافع عنها في أعلى المحافل الدولية.
ولد عمار بن جامع عام 1951 في القل بولاية سكيكدة، وتخرج عام 1975 من قسم الدبلوماسية في المدرسة الوطنية للإدارة.
خدم في مناصب دبلوماسية عديدة، منها سفيراً في فرنسا (2013-2016)، قبل أن يعود إلى الواجهة في أفريل 2023 كممثل دائم للجزائر لدى الأمم المتحدة.
لقد أثبت عمار بن جامع أن الدبلوماسية ليست فقط فن المناورة والمصالح، بل هي أيضاً فن قول الحقيقة والدفاع عن المبادئ، حتى في أحلك الظروف وأصعب المحافل.
وستبقى كلماته محفورة في ذاكرة التاريخ، كشهادة على زمن قالت فيه الجزائر كلمة الحق، ووقفت مع المستضعفين، ولم تساوم على مبادئها.
في نهاية المطاف، كما قال في إحدى مداخلاته: “نريد أن تصبح فلسطين عضواً كاملاً وسيداً في الأمم المتحدة”.
وهذا هو الحلم الذي سيواصل الدبلوماسيون الجزائريون العمل من أجله، حاملين معهم إرث الكلمات التي خلّدها عمار بن جامع في مجلس الأمن.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة