شهد قطاع التربية الوطنية في الجزائر خلال العام 2025 تحولات جذرية وشاملة تمثلت في إصلاحات هيكلية عميقة شملت المناهج التعليمية والبرامج الدراسية والتنظيم الإداري، في إطار رؤية استراتيجية تهدف إلى تحسين جودة التعليم ومواكبة التطورات العالمية في المجال التربوي.
هذه الإصلاحات جاءت بعد دراسات معمقة أجرتها اللجنة الوطنية لجودة التعليم وبتوجيهات مباشرة من وزير التربية الوطنية، محمد صغير سعداوي، الذي أكد في أكثر من مناسبة أن المرحلة الحالية تشكل منعطفا حاسما في تاريخ المنظومة التربوية الجزائرية، وانطلق الدخول المدرسي للموسم 2025/2026 يوم 21 سبتمبر الماضي في جميع المؤسسات التربوية، في أجواء تميزت بالتنظيم المحكم والاستعدادات المسبقة التي قامت بها مديريات التربية في الولايات.
هذا الدخول المدرسي جاء مختلفا عن السنوات السابقة حيث رافقته حملات توعوية واسعة حول التغييرات الجديدة في المناهج والبرامج الدراسية، بالإضافة إلى تعزيز البنية التحتية الرقمية في عديد المؤسسات التعليمية، ضمن مشروع التحول الرقمي الذي تبنته الوزارة كأحد المحاور الأساسية للإصلاح التربوي الشامل.
وقد شدد وزير التربية خلال الاجتماعات التحضيرية مع مديري التربية على ضرورة توفير كل الظروف الملائمة للتلاميذ والأساتذة على حد سواء، مع التركيز على معالجة النقائص المسجلة في السنوات الماضية خاصة في ما يتعلق بالكتاب المدرسي والتجهيزات البيداغوجية، كما تم توسيع شبكة التعليم التحضيري لتشمل مناطق إضافية خاصة في الأرياف والمناطق النائية، في إطار سياسة تعميم التعليم التحضيري الذي أثبتت الدراسات التربوية أهميته البالغة في تهيئة الأطفال للمرحلة الابتدائية وتحسين مستوى التحصيل الدراسي في المراحل اللاحقة.
تعتبر خطة إعادة هيكلة التعليم المتوسط والثانوي التي أعلن عنها وزير التربية الوطنية، من أبرز الإصلاحات التي شهدها القطاع خلال العام 2025، هذه الخطة الطموحة تقوم على فلسفة تربوية جديدة ترتكز على مبدأ التركيز والتخصص بدلا من التشتت والتعدد في المواد الدراسية، حيث تم اتخاذ قرار استراتيجي بحذف المواد الثانوية غير الأساسية التي لا تسهم بشكل مباشر في التكوين العلمي والمعرفي للتلميذ ولا ترتبط ارتباطا وثيقا بالتخصص الذي اختاره الطالب في المرحلة الثانوية.
هذا التوجه الجديد يهدف بالدرجة الأولى إلى تخفيف الضغط على التلاميذ الذين كانوا يعانون من كثافة البرامج الدراسية وتعدد المواد، مما كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى تشتت الجهد وضعف التركيز على المواد الأساسية، كما أن هذا الإصلاح يتماشى مع التوجهات التربوية الحديثة في دول عديدة أثبتت تجاربها نجاحا ملحوظا في تحسين مستوى التحصيل العلمي للطلاب، من خلال التركيز على التخصصات العلمية الدقيقة بدلا من التوزع على مواد متعددة، قد لا يكون بعضها ذا أهمية مباشرة بالنسبة للمسار الدراسي أو المهني المستقبلي للطالب.
شملت الإصلاحات التي أقرتها وزارة التربية الوطنية تحديثات جوهرية في المناهج والبرامج الدراسية عبر مختلف الأطوار التعليمية، حيث تمت إعادة النظر في الحجم الساعي المخصص لكل مادة بناء على أهميتها ودورها في التكوين العلمي والثقافي للتلميذ، ومن أبرز التغييرات التي أُحدِثت: زيادة ساعات تدريس اللغة العربية لتصل إلى 7 ساعات أسبوعيا بدلا من 5 ساعات كما كان معمولا به سابقا، وذلك في إطار تعزيز مكانة اللغة الوطنية وتمكين التلاميذ من التحكم الجيد في اللغة العربية قراءة وكتابة وتعبيرا، خاصة في ظل الملاحظات التي سجلتها الهيئات التربوية حول ضعف مستوى التلاميذ في اللغة العربية في السنوات الأخيرة.
كما تم الرفع من حجم ساعات تدريس اللغة الإنجليزية لتصل إلى ساعتين أسبوعيا بدلا من ساعة واحدة، ضمن استراتيجية تعزيز تعليم اللغات الأجنبية وخاصة اللغة الإنجليزية التي أصبحت لغة العلم والتكنولوجيا على المستوى العالمي. هذا التوجه يعكس إدراك المسؤولين عن القطاع لأهمية تمكين التلاميذ الجزائريين من اللغة الانجليزية في وقت مبكر لتسهيل اندماجهم في المجتمع العلمي والتكنولوجي العالمي، ولفتح آفاق أوسع أمامهم في مجال التعليم العالي والبحث العلمي والتوظيف.
التربية البدنية والرياضية لم تكن بعيدة عن هذه الإصلاحات، حيث تمت إضافة ساعة تدريس إضافية لهذه المادة ضمن رؤية شاملة تهدف إلى تنمية الجانب البدني والصحي للتلميذ إلى جانب الجانب المعرفي والعلمي، انطلاقا من المقولة الشهيرة “العقل السليم في الجسم السليم”. هذا التوجه يتماشى أيضا مع السياسة الوطنية لترقية الرياضة المدرسية واكتشاف المواهب الرياضية في سن مبكرة.
في خطوة نوعية تهدف إلى تعزيز ثقافة المشاركة والديمقراطية لدى الأطفال والناشئة، تم تنصيب برلمان الطفل الجزائري يوم 22 ديسمبر الجاري، في احتفالية رسمية حضرها وزير التربية الوطنية ومسؤولون سامون في الدولة، هذه المبادرة التربوية الرائدة تهدف إلى إشراك الأطفال في النقاش العام حول القضايا التي تهمهم، وتمكينهم من التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم بشأن القطاع التربوي وغيره من القطاعات ذات الصلة بحياتهم اليومية.
برلمان الطفل الجزائري يتكون من ممثلين عن مختلف ولايات الوطن يتم اختيارهم وفق معايير محددة تأخذ بعين الاعتبار التفوق الدراسي والقدرة على التعبير والاهتمام بالشأن العام. هذا البرلمان سيكون له دور استشاري في العديد من القضايا المتعلقة بالطفولة والتربية، كما سيشكل فضاء للتعلم الديمقراطي وممارسة حق التعبير والمشاركة في صناعة القرار.
المبادرة تأتي في إطار الالتزام بتطبيق اتفاقية حقوق الطفل الدولية التي صدّقت عليها الجزائر والتي تنص على حق الطفل في المشاركة والتعبير عن رأيه في كل القضايا التي تمسه.
في إطار المتابعة الميدانية لسير المؤسسات التربوية وتفقد الهياكل المدرسية والوقوف على الاحتياجات والنقائص المسجلة، قام الوزير سعداوي بعدة زيارات عمل إلى ولايات مختلفة من الوطن خلال العام 2025.
وخلال هذه الزيارات الميدانية، شدد الوزير على ضرورة توفير كل الظروف الملائمة للتمدرس الجيد، بما في ذلك صيانة المرافق المدرسية وتوفير التجهيزات البيداغوجية الضرورية وتحسين ظروف العمل بالنسبة للأساتذة، كما أكد على أهمية المتابعة المستمرة لتطبيق الإصلاحات الجديدة وضرورة مرافقة الأساتذة في تنفيذ المناهج المحدثة من خلال دورات تكوينية، وورشات عمل تساعدهم على استيعاب الفلسفة الجديدة للمنظومة التربوية وعلى تطبيق الطرق البيداغوجية الحديثة في التدريس.
كما تم إعطاء تعليمات صارمة بضرورة تسريع وتيرة الأشغال واحترام المواصفات التقنية والنوعية لضمان تسليم هذه المنشآت في الآجال المحددة واستغلالها في الدخول المدرسي المقبل. هذه المشاريع تندرج في إطار البرنامج الوطني لتوسيع الشبكة المدرسية وتحسين البنية التحتية التربوية، خاصة في المناطق التي تعاني من نقص في المؤسسات التعليمية أو في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة.
ومن المحاور المهمة في إصلاح القطاع، العمل الجاري حول تحديث القانون الأساسي لموظفي القطاع بهدف تحسين ظروف عملهم ومعالجة الانشغالات المهنية والاجتماعية المطروحة منذ سنوات. هذا التحديث يشمل إعادة النظر في نظام الترقية والتصنيف المهني وكذا الحوافز المادية والمعنوية الممنوحة للإطارات التربوية، بما في ذلك الأساتذة والمديرون والمفتشون والمستشارون التربويون.
الوزارة فتحت حوارا مع النقابات الممثلة لموظفي القطاع حول مشروع القانون الأساسي الجديد، حيث تم تنظيم عدة جولات من المفاوضات والنقاشات حول مختلف النقاط المثارة.
من بين المطالب التي تم تسجيلها من قبل النقابات تحسين الأجور وإعادة النظر في نظام المنح وتخفيف الحجم الساعي للأساتذة، وتحسين شروط الترسيم والترقية وتوفير ظروف عمل أفضل في المؤسسات التربوية خاصة في المناطق النائية والمعزولة.
في السياق نفسه، تم الإعلان عن عمليات توظيف جديدة في القطاع لسد العجز المسجل في بعض التخصصات وبعض المناطق، حيث تم فتح مسابقات وطنية للتوظيف في مختلف الرتب والأسلاك. هذه العمليات تهدف إلى ضمان تغطية كاملة للخريطة التربوية الوطنية وتوفير الموارد البشرية الكافية لتطبيق الإصلاحات المقررة وضمان تعليم ذي جودة لكل التلاميذ في كل مناطق الوطن.
وإدراكا من الوزارة لأهمية التعليم التحضيري في تهيئة الأطفال للدخول إلى المدرسة الابتدائية وفي تحسين فرص نجاحهم في مسارهم الدراسي، تم إعطاء أولوية كبرى لتوسيع شبكة التعليم التحضيري لتشمل كل مناطق الوطن وخاصة المناطق الريفية والنائية، التي كانت تعاني من نقص أو انعدام هذا النوع من التعليم.
وخلال العام 2025 تم فتح المئات من أقسام التعليم التحضيري في مختلف الولايات، كما تم تخصيص اعتمادات مالية معتبرة لتجهيز هذه الأقسام بالوسائل البيداغوجية الضرورية ولتكوين المربين المكلفين بتأطير الأطفال في هذه المرحلة الحساسة.
التعليم التحضيري موجه للأطفال البالغين من العمر خمس سنوات، وهو يهدف إلى تنمية مختلف قدرات الطفل اللغوية والحركية والاجتماعية والمعرفية من خلال أنشطة تربوية مكيفة مع هذه الفئة العمرية.
البرامج المطبقة في التعليم التحضيري تركز على اللعب والتعلم من خلال الأنشطة التفاعلية والجماعية، بعيدا عن الطرق التقليدية في التدريس، مما يساعد الطفل على اكتساب المهارات الأولية التي يحتاجها في بداية مساره المدرسي.
رغم الجهود المبذولة والإنجازات المحققة، تبقى المنظومة التربوية الجزائرية تواجه العديد من التحديات التي تتطلب مزيدا من العمل والمثابرة لتجاوزها. من بين هذه التحديات، مسألة الاكتظاظ في الأقسام الدراسية التي لا تزال قائمة في عدد من المؤسسات التربوية خاصة في المدن الكبرى والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
هذا الاكتظاظ يؤثر سلبا على جودة التعليم ويحد من قدرة الأستاذ على متابعة كل التلاميذ بشكل فردي وعلى تطبيق الطرق البيداغوجية الحديثة التي تتطلب عددا محدودا من التلاميذ في كل قسم.
التسرب المدرسي يشكل أيضا تحديا كبيرا رغم انخفاض نسبته في السنوات الأخيرة، حيث لا يزال آلاف التلاميذ يغادرون مقاعد الدراسة سنويا لأسباب مختلفة منها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. هذه الظاهرة تتطلب معالجة شاملة لا تقتصر على الجانب التربوي فقط وإنما تشمل أيضا الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، من خلال تقديم المساعدات للعائلات المعوزة وتوفير المرافقة النفسية والاجتماعية للتلاميذ المعرضين لخطر التسرب، وتطوير برامج الدعم المدرسي للتلاميذ الذين يواجهون صعوبات في التحصيل الدراسي.
مسألة النقل المدرسي تبقى من الإشكاليات المطروحة خاصة في المناطق الريفية والجبلية حيث تبعد المؤسسات التربوية عن أماكن سكن التلاميذ بمسافات كبيرة، مما يشكل عبئا على العائلات ويعرض التلاميذ لمخاطر الطريق.
رغم الجهود المبذولة من قبل السلطات المحلية في توفير حافلات النقل المدرسي، إلا أن الحاجة لا تزال كبيرة وتتطلب تعزيز أسطول النقل المدرسي وتوسيع شبكة التغطية لتشمل كل المناطق المعنية.
ومع اقتراب الامتحانات تنتعش الدروس الخصوصية خلال هذه الفترة تحديدا، ويقابل هذا استياء كبير من قبل أولياء الأمور الذين أكدوا أن المدرسين الخصوصيين يستغلون فترة الفروض والاختبارات ويرفعون أسعار الحصص لتصل إلى أعلى مستوياتها ويتجاوز معدل الحصة الواحدة 500 د.ج في الساعة، وأضافوا: إن التوجه إلى الدروس الخصوصية قبل الامتحانات أصبح أمرا إلزاميا لأولياء الأمور، وظاهرة انتشرت سريعا وبصورة واسعة ومُكثّفة بين الطلبة، وأخذت المقارنات مساحتها، حيث إن كل طالب يقارن نفسه بزميله بتوفير المدرسين الخصوصيين أم لا؟.
وتستنزف هذه الظاهرة جيوب أولياء الأمور الذين يدفعون مبالغ طائلة خلال فترة وجيزة، وتبقى التساؤلات عن أسباب لجوء الطلبة إلى الدروس الخصوصية هل بسبب ضعف الدروس والأنشطة التي يتلقاها الطالب في المدرسة؟! أم بسبب اختيار معلمين غير مناسبين للمرحلة العمرية أو الصفية للطلبة؟! أم أن هناك أسبابا أخرى تسهم في البحث عن الدروس الخصوصية لإنقاذ الموقف والبحث عن النتائج المرضية لكل من الطالب وولي أمره.
ظاهرة العنف في الوسط المدرسي سواء العنف بين التلاميذ أو العنف ضد الأساتذة والإطارات التربوية، أصبحت تشكل قلقا متزايدا يتطلب معالجة جدية وشاملة.
الوزارة أطلقت عدة برامج ومبادرات لمكافحة هذه الظاهرة من خلال التوعية والتحسيس بمخاطر العنف، وتعزيز ثقافة الحوار والتسامح في المؤسسات التربوية، وتفعيل دور مستشاري التوجيه والمرشدين النفسيين في متابعة التلاميذ الذين يظهرون سلوكات عدوانية، وتطبيق العقوبات التأديبية المنصوص عليها في النظام الداخلي للمؤسسات التربوية.
كما تم التشديد على ضرورة تعزيز التعاون بين المدرسة والعائلة في معالجة حالات العنف؛ فالكثير من السلوكيات العدوانية التي يظهرها التلاميذ تكون نتيجة لمشاكل عائلية أو اجتماعية تتطلب تدخلا مشتركا من قبل الجهات التربوية والاجتماعية. كما تعمل الوزارة أيضا على تكوين الأساتذة وإطارات التربية على كيفية التعامل مع حالات العنف وعلى تقنيات إدارة النزاعات وحل المشاكل بطرق سلمية.
تم كذلك إطلاق حملات توعوية موجهة للتلاميذ حول مخاطر التنمر والعنف اللفظي والجسدي، وتشجيعهم على الإبلاغ عن أي حالات عنف يشهدونها أو يتعرضون لها، كما تم إنشاء خلايا استماع في المؤسسات التربوية لتقديم الدعم النفسي والمرافقة للتلاميذ ضحايا العنف.
في إطار احترام حقوق الطفل وضمان تكافؤ الفرص لجميع الأطفال بمن فيهم ذوو الاحتياجات الخاصة، تعمل الوزارة على تعزيز سياسة الدمج المدرسي للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس العادية. هذه السياسة تهدف إلى تمكين هؤلاء الأطفال من التمدرس في المؤسسات التربوية نفسها التي يتمدرس فيها أقرانهم، مع توفير الدعم والمرافقة الضرورية لضمان نجاحهم في مسارهم الدراسي.
ورغم الجهود المبذولة، لا تزال هناك تحديات كبيرة في مجال دمج ذوي الاحتياجات الخاصة منها نقص الموارد البشرية المتخصصة، ومحدودية البنية التحتية المكيفة، وضعف الوعي لدى بعض الإطارات التربوية والأولياء حول أهمية الدمج المدرسي وحول حقوق الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
وزارة التربية تعمل على تجاوز هذه التحديات من خلال برامج تكوينية وحملات توعوية وتخصيص موارد إضافية لهذا الملف.
إن المنظومة التربوية الجزائرية تعيش مرحلة انتقالية حاسمة تتميز بإصلاحات شاملة وجريئة تمس مختلف جوانب العملية التربوية. هذه الإصلاحات التي انطلقت فعليا خلال العام 2025 تحتاج إلى وقت كاف لتثبت نجاعتها وتحقق الأهداف المرجوة منها، كما تحتاج إلى مرافقة ومتابعة مستمرة لتقييم النتائج وإجراء التعديلات الضرورية حسب المستجدات والصعوبات التي قد تظهر خلال التطبيق.
المصدر:
الإخبارية