● بنك الجزائر يشدد الخناق على “الكاش”:
خطوة تنظيمية أم منعطف في بنية الاقتصاد الوطني؟
الجزائر الآن – في خطوة لافتة تعكس تحوّلًا عميقًا في مقاربة تسيير المنظومة النقدية، أصدر بنك الجزائر تعليمة جديدة تُقيد عمليات الإيداع النقدي في الحسابات التجارية، وتفرض الاعتماد شبه الحصري على وسائل الدفع الكتابية، من تحويلات وشيكات، مع الإبقاء على هامش ضيق للحالات الاستثنائية المبررة.
القرار، الوارد في المذكرة رقم 02/DGIG/2025، لا يمكن قراءته كإجراء تقني ظرفي، بل يندرج ضمن مسار أوسع لإعادة ضبط الحوكمة المالية، وتعزيز الامتثال لمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتكييف النظام البنكي الوطني مع متطلبات الشفافية الدولية.
● تيغرسي : من اقتصاد “الكاش” إلى اقتصاد الأثر المالي
في قراءة تحليلية معمقة، يرى الخبير الاقتصادي والمحاضر بجامعة بن عكنون الدكتور هواري تيغرسي في تصريحه لصحيفة الجزائر الآن الاليكترونية بأن التعليمة الأخيرة لبنك الجزائر تمثل منعطفًا استراتيجيًا حقيقيًا في فلسفة الرقابة النقدية.
معتبرًا أن التشديد على الإيداع غير النقدي لا يستهدف السيولة في حد ذاتها، بل يعيد ترتيب مساراتها ويُخضعها لمنطق التتبع والمساءلة.
ويؤكد على أن تشديد الخناق على “الكاش” لا يعني إعلان حرب على النشاط الاقتصادي، بل إعادة ضبط قواعد اللعبة المالية، بما يضمن التمييز بين التدفقات المشروعة وتلك التي ظلت لعقود خارج الرصد.
● تحول في الفلسفة النقدية من استيعاب الواقع إلى إعادة تشكيله
يوضح تيغرسي أن التعليمة تعكس انتقالًا واضحًا من منطق التكيّف مع واقع نقدي مفروض، إلى منطق إعادة صياغة هذا الواقع. فالبنك المركزي، وفق هذا التوجه، لم يعد مجرد ضابط للسيولة، بل أصبح فاعلًا محوريًا في هندسة الحوكمة الاقتصادية، من خلال التركيز على مصدر الأموال، مسارها، وقابليتها للتتبع.
ويأتي هذا التحول في سياق عالمي لم تعد فيه النقود الورقية مجرد وسيلة تبادل، بل عامل مخاطرة في أنظمة مالية تبحث عن الشفافية والاستقرار.
● تجفيف منابع الاقتصاد الموازي بالتتبع المالي بدل المعالجة الشكلية
يرى المتحدث بأن اعتماد التحويلات والشيكات كوسائل معيارية للإيداع يعزز قدرة البنوك على تتبع حركة الأموال، ويقوّي أنظمة الإنذار المبكر، ويقلص المساحات الرمادية التي يستغلها الاقتصاد الموازي.
وعليه، فإن القرار لا يندرج في خانة الامتثال الشكلي، بل يشكل رافعة عملية لتجفيف منابع النشاط غير المهيكل وتعزيز فعالية منظومة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
● مقاربة قائمة على المخاطر لا على المنع ورقابة ذكية بدل تضييق شامل
اللافت في التعليمة، حسب مختصين في الشأن النقدي، هو اعتمادها على مبدأ تحليل المخاطر بدل الحظر المطلق. فقد شدد البنك المركزي على التطبيق الصارم لإجراءات العناية المعززة تجاه العمليات عالية المخاطر، مع التأكيد على عدم تحويل التشديد إلى عائق أمام الشمول المالي، خاصة بالنسبة للأفراد والمؤسسات ذات السجلات الواضحة.
ويعكس هذا التوازن، وفق مراقبين، رغبة رسمية في تنظيم السوق لا خنقه، وفي إدماج النشاط المشروع بدل دفعه نحو الانكماش أو الانغلاق.
● “القرار لا يقيّد الاقتصاد… بل ينقّيه” رؤية إصلاحية بعيدة المدى
يؤكد الدكتور تيغرسي أن تعليمة بنك الجزائر لا تستهدف خنق النشاط الاقتصادي، بل تسعى إلى تنقية الاقتصاد الحقيقي من التشوهات التي راكمها الاعتماد المفرط على التعاملات النقدية غير المهيكلة.
ولا يستبعد الخبير تسجيل صعوبات ظرفية في المرحلة الأولى، تتجلى في بطء نسبي للمعاملات لدى بعض المؤسسات، غير أن الأثر الحقيقي، حسبه، سيظهر على المدى المتوسط والطويل، من خلال تنظيم المبادلات المالية، رفع الشفافية، وتقليص المنافسة غير العادلة التي طالما أضرت بالمؤسسات الملتزمة بالقانون.
● المؤسسات الصغيرة تحت الاختبار نجاح القرار مشروط بالمرافقة لا بالنصوص
يشدد الخبير الإقتصادي على أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتجار الصغار يمثلون الحلقة الأكثر حساسية في هذه المرحلة، محذرًا من أن نجاح القرار يبقى رهين جملة من الشروط المرافقة، أبرزها:
• تبسيط الإجراءات البنكية،
• تخفيض تكاليف الخدمات المصرفية،
• تعميم وسائل الدفع الإلكتروني،
• اعتماد مرافقة انتقالية مرنة وذكية.
ويحذر من أن غياب هذه الآليات قد يحوّل الإجراء من أداة إدماج اقتصادي إلى عامل إقصاء غير مقصود.
● الدفع غير النقدي: البديل لا المنع الثقة أساس التحول
ويرى تبغرسي بأن النقد لا يُهزم بالمنع، بل بتوفير بديل أكثر موثوقية وفعالية. فترسيخ ثقافة الدفع غير النقدي يتطلب ثقة المستخدم، جودة الأنظمة، سرعة الخدمة، وتحفيزات ملموسة، لا مجرد تشديد إداري.
أبعاد اقتصادية وسيادية
رسالة داخلية وخارجية
اقتصاديًا، يهدف القرار إلى:
• الحد من تضخم الاقتصاد الموازي،
• تحسين مراقبة الكتلة النقدية،
• تعزيز مصداقية القطاع البنكي داخليًا وخارجيًا.
أما سياسيًا، فهو يحمل رسالة سيادية واضحة مفادها أن الاندماج في الاقتصاد الوطني بات مشروطًا بالشفافية والامتثال، وأن مرحلة التساهل مع التدفقات النقدية غير المبررة تقترب من نهايتها.
● القرار يهدف إلى إصلاح هيكلي لا إجراء ظرفي
يخلص الدكتور هواري تيغرسي إلى أن قرار بنك الجزائر ليس إجراءً تقنيًا معزولًا، بل لبنة أساسية في بناء اقتصاد أقل نقدية، وأكثر شفافية، وأكثر قابلية للحَوْكمة، على أن يبقى نجاحه مرهونًا بمدى مرافقة الفاعلين الاقتصاديين، لا بصرامة النصوص وحدها.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة