الجزائر في قلب الرؤية الأمريكية الجديدة: شريك استراتيجي يوازن تحولات إفريقيا والطاقة
الجزائرالٱن _ أبرزت الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي للولايات المتحدة المكانة المتقدمة التي تحتلها الجزائر داخل المقاربة الأمريكية تجاه القارة الإفريقية، إذ تُدرجها واشنطن ضمن شركائها الأكثر استقرارًا وقدرة على توفير بيئة استراتيجية ملائمة للتعاون في الطاقة والأمن.
وتتعامل الوثيقة مع الجزائر باعتبارها طرفًا يرتكز التعاون معه على “شراكة سيادية” راسخة، وليست مجرد صياغات دبلوماسية جديدة، وهو ما يعكس ثبات النظرة الأمريكية تجاه موقع الجزائر في حساباتها.
وتستند واشنطن في هذا التقييم إلى مجموعة من المؤشرات التي شهدتها العلاقات الثنائية في الفترة الأخيرة، وعلى رأسها استقبال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون للمستشار الرفيع للرئيس الأمريكي لشؤون إفريقيا والشرق الأوسط مسعد بولس.
إلى جانب الزيارات المكثفة لقيادة “أفريكوم”، ومسار التفاوض الجاري مع أكبر الشركات النفطية الأمريكية حول مشاريع استثمارية داخل الجزائر.
وتُظهر هذه الحركية أن الولايات المتحدة تتجه نحو تثبيت شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع الجزائر، وترى فيها طرفًا موثوقًا في إدارة الملفات الحيوية في القارة.
تحوّل في فلسفة الأمن القومي الأمريكي
الوثيقة التي صدرت في 4 ديسمبر 2025، وجاءت في 33 صفحة، تكشف عن تحول جذري في أسلوب واشنطن في إدارة سياستها الخارجية.
فبعد سنوات من التدخلات المباشرة ومحاولات فرض نماذج سياسية خارجية، تعلن الولايات المتحدة أن قدرتها على خوض حروب طويلة وإعادة تشكيل البيئات السياسية قد بلغت حدودها القصوى، وأن المرحلة المقبلة ستقوم على نهج أكثر براغماتية يركز على المصالح الحيوية والشراكات الانتقائية.
وتوضح الصفحة 29 المخصصة لإفريقيا أن القطاعات التي توليها واشنطن الأولوية هي الطاقة بمختلف فروعها، والغاز الطبيعي المسال، وتطوير التكنولوجيا النووية المدنية، والمعادن الحيوية الضرورية للأمن الصناعي الأمريكي.
وضمن هذا السياق، تأتي الجزائر في مقدمة الدول التي تنسجم خصائصها مع هذا التحول، بحكم مواردها الطاقوية وقدرتها على توفير بيئة مستقرة للاستثمار.
من المساعدات إلى الاستثمار
تسجل الاستراتيجية انتقالًا واضحًا من منطق المساعدات التقليدي إلى منطق الاستثمار المباشر في القطاعات الاستراتيجية.
فالولايات المتحدة تنظر اليوم إلى إفريقيا باعتبارها فضاءً اقتصاديًا واعدًا، وتعتبر أن الاستثمار في الطاقة والبنى التحتية والمعادن النادرة هو الوسيلة الأكثر فعالية لتعزيز حضورها.
وتبرز الجزائر كإحدى الدول القادرة على استقطاب الاستثمارات الأمريكية بفضل مواردها الطاقوية، وخططها في مجال التحول الطاقوي والصناعات البتروكيماوية، إلى جانب مشاريع الطاقات الجديدة.
ويتقاطع هذا التحول مع الخصائص الجزائرية من حيث استقلالية القرار السياسي، والقدرة على إدارة محيط أمني معقد دون الاعتماد على قواعد أجنبية، وخبرة طويلة في التعامل مع الإرهاب والجريمة المنظمة بالحدود الجنوبية.
الجزائر عنصر توازن في الساحل
ترى الولايات المتحدة أن الجزائر تتمتع بدور مركزي في معادلة السلم والأمن في منطقة الساحل، سواء بسبب موقعها الجغرافي أو بفعل حضورها داخل الاتحاد الإفريقي ومجلس السلم والأمن.
وتتمتع الجزائر بمقاربة ثابتة تقوم على الحلول السياسية والوساطات الداخلية، بعيدًا عن منطق الاستقطاب، وهو ما ينسجم مع الرؤية الأمريكية الجديدة التي تركز على منع تمدد النزاعات في القارة، من الكونغو الديمقراطية إلى منطقة القرن الإفريقي.
كما تتبنى واشنطن توجهًا يدعم الإصلاحات العضوية داخل الدول، وتبتعد عن الضغوط السياسية التي طبعت مقاربتها خلال العقدين السابقين.
ما يمنح الجزائر مجالًا أوسع لبناء علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة دون المساس بثوابتها السيادية.
الجزائر بين واشنطن وموسكو وبكين
وتتوقع الاستراتيجية الأمريكية مواجهة منافسة روسية وصينية متزايدة في إفريقيا، في وقت لا ترغب فيه واشنطن في زيادة وجودها العسكري.
ولهذا تبحث الولايات المتحدة عن شركاء يمتلكون القدرة الذاتية على ضبط محيطهم، وتعتبر الجزائر واحدة من الدول القليلة التي تجمع بين الاستقلالية السياسية والعلاقات المتوازنة مع القوى الكبرى، وقدرتها على فرض استقرار إقليمي في فضاء يتسم بالتوترات.
وتُشير الوثيقة إلى أن الجزائر يمكن أن تستفيد من التوجه الأمريكي نحو الاستثمار في الطاقات التقليدية والمتجددة والبنى التحتية الحديثة وسلاسل الإمداد الاستراتيجية، بحكم ما تملكه من احتياطيات كبيرة من الغاز، وسوق يمكنها استيعاب التكنولوجيا الأمريكية.
تعزيز التعاون الأمني دون انخراط ميداني
تلحّ الاستراتيجية على ضرورة الرفع من مستوى التعاون الأمني مع الشركاء القادرين على مكافحة الإرهاب في الساحل وغرب إفريقيا دون الاحتياج إلى تدخل عسكري أمريكي مباشر.
وتمتلك الجزائر مقاربة أمنية تُعدّ من بين الأكثر فاعلية في المنطقة، تعتمد على اليقظة الحدودية وتبادل المعلومات والعمليات الاستباقية.
من شريك محتمل إلى ركيزة استراتيجية
تُقيّم واشنطن الجزائر باعتبارها دولة تملك استقلالية قرار واسعة وقدرة على لعب دور الوسيط في أزمات المنطقة.
وهو ما يجعلها شريكًا ضروريًا في مرحلة تبحث فيها الولايات المتحدة عن بناء توازنات جديدة في البحر المتوسط والساحل.
وتمنح الجغرافيا الجزائرية وامتدادها نحو العمق الإفريقي قيمة استراتيجية مضاعفة في التصور الأمريكي.
وتندرج زيارة مسعد بولس إلى الجزائر ضمن هذا الإطار العملي لتعزيز الشراكة، حيث شملت محادثات عالية المستوى حول الإرهاب والطاقة والتنسيق في الساحل، وتُوّجت باستقبال رئيس الجمهورية.
وأكد بولس أن واشنطن تنظر إلى الجزائر بمنظور استراتيجي بعيد المدى، رغم تواضع حجم المبادلات التجارية الحالية.
وتزامنت الزيارة مع توقيع اتفاقية جديدة بين “شيفرون” والوكالة الجزائرية لتثمين موارد المحروقات بشأن دراسات استكشافية في السواحل، ومع توسيع شركات أمريكية كبرى مثل “إكسون موبيل” و”أوكسيدنتال” نشاطها في الجزائر، مستندة إلى إصلاحات قانون المحروقات.
معهد واشنطن يقدّم قراءة أوسع للدور الجزائري
مرجع بحثي أصدره معهد واشنطن يذهب إلى أبعد من ذلك، مؤكدًا أن الاهتمام الأمريكي بالجزائر نتاج قراءة معمقة لعوامل متعددة: استقرار سياسي، قوة مؤسسات أمنية، قدرة على ضبط فضاء إقليمي مضطرب، واستقلالية مالية تمنحها مرونة عالية في التعامل مع القوى الكبرى.
ويعتبر التقرير أن توقيع مذكرة التفاهم الدفاعية في جانفي 2025 مثّل لحظة تحول في مقاربة واشنطن، باعتبار الجزائر شريكًا سياديًا لا يتحرك بمنطق المحاور.
ويشير التحليل أيضًا إلى أن تراجع النفوذ الفرنسي في الساحل وانكماش الحضور الأمريكي المباشر يمنح الجزائر وزنًا إضافيًا داخل معادلة الأمن، بما تمتلكه من أدوات فهم محلي للبيئة المحيطة وخبرة واسعة في مكافحة الإرهاب العابر للحدود.
وتدعو الدراسة إلى تطوير نمط جديد من الشراكة بين البلدين يقوم على احترام السيادة وتعميق التعاون في مجالات الطاقة والزراعة الحديثة والموارد المائية.
منصة طاقوية–استراتيجية
ويؤكد المرجع التحليلي أن التحولات التي عرفتها أسواق الطاقة منذ 2022 رفعت من الوزن الجيوسياسي للجزائر، خصوصًا مع المنافسة الدولية على الغاز والطاقات البديلة وإعادة هيكلة سلاسل الإمداد.
وفي هذا المناخ، تُعد الجزائر طرفًا مهمًا في رؤية واشنطن الطاقوية الجديدة، بحكم قدرتها على توفير موارد مستقرة وموقعها كأحد أبرز المزودين للأسواق العالمية.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة