آخر الأخبار

العلاقات الجزائرية–الفرنسية: بوادر انفراج حذر وشروط صارمة لإعادة بناء الثقة

شارك
بواسطة محمد قادري
صحفي جزائري مختص في الشأن السياسي الوطني و الدولي .
مصدر الصورة
الكاتب: محمد قادري

● العلاقات الجزائرية–الفرنسية: بوادر انفراج حذر وشروط صارمة لإعادة بناء الثقة

الجزائر الآن _ في خضم التحولات السياسية التي شهدتها فرنسا مؤخرًا، تبرز العلاقات الجزائرية-الفرنسية كأحد أبرز الملفات التي تحتاج إلى قراءة متأنية ومعمقة. فبعد فترة من التوتر الحاد وصل إلى حد القطيعة شبه الكاملة، تلوح في الأفق بوادر انفراج محتملة، لكنها محفوفة بالشروط والتحديات.

يقدم البروفيسور الجيلالي شقرون، المتخصص في تاريخ العلاقات الدولية والدبلوماسية، والأمين العام للحركة الديناميكية للجزائريين في فرنسا (موداف) ناصر خبات، في تصريحاتهما للصحيفة الإلكترونية “ الجزائر الآن“، قراءة عميقة للمشهد الراهن، وتحليلًا دقيقًا للتحولات الجارية، ورؤية واضحة للشروط التي قد تفتح الباب أمام عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي.

● من التصعيد إلى بوادر الانفراج: قراءة في المتغيرات

يرسم البروفيسور شقرون صورة واضحة للمرحلة التي سبقت الأزمة الحالية، حيث يشير إلى أن العلاقات الجزائرية-الفرنسية شهدت توترًا حادًا وصل إلى حد القطيعة، خاصة على المستوى الدبلوماسي، بسبب التصريحات الخطيرة والمتكررة الصادرة عن فرنسا.

ويحمّل شقرون المسؤولية الأكبر لبرونو روتايو، وزير الداخلية الفرنسي السابق، الذي كان يتصدر المشهد ويطلق تصريحات شديدة اللهجة تجاه الجزائر، نيابة عن الرئيس ماكرون ووزير الخارجية، ما دفع الجزائر إلى قطع علاقاتها مع فرنسا دبلوماسيًا وسياسيًا واقتصاديًا.

غير أن المشهد بدأ يتغير مع تولي الحكومة الجديدة برئاسة سيباستيان لوكورنو، الذي أعلن ضرورة إنهاء سياسة “ليّ الأذرع”، في إشارة واضحة إلى الضغوط التي كانت تمارَس على الجزائر.

مصدر الصورة

هذا التحول في الخطاب السياسي الفرنسي، يعكس إدراكًا متأخرًا لخطورة القطيعة مع الجزائر، في وقت تعاني فيه فرنسا من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة.

وتتفق حركة “ موداف” مع هذه القراءة، إذ تسجل أن وزير الداخلية الفرنسي اعتمد في الفترة الأخيرة خطابًا أكثر مسؤولية، متحدثًا عن علاقة تقوم على البناء والتعاون مع الجزائر.

كما تشير الحركة إلى تصريحات وزير أوروبا والشؤون الخارجية، جان نويل بارو، الذي أكد ضرورة “حوار أكثر جدية” و”مراجعة شاملة” للعلاقات الثنائية، بهدف تجاوز التوترات والعودة إلى حوار واضح وشفاف يحترم سيادة الدول.

● التصريحات الفرنسية الأخيرة: تحول حقيقي أم مناورة سياسية؟

تتعامل التصريحات الجزائرية مع الخطاب الفرنسي الجديد بحذر وواقعية.

فالبروفيسور شقرون يرى في تصريحات الوزير الأول الفرنسي عن نيته زيارة الجزائر قريبًا لترميم العلاقات، إشارة إيجابية، لكنه يؤكد في الوقت ذاته أن هناك ملفات لن تتنازل عنها الجزائر، وأن فرنسا عليها أن تثبت جديتها بالأفعال لا بالأقوال فقط.

ومن جهتها، ترى حركة “موداف” أن هذا التحول في الخطاب الفرنسي يمثل “مؤشرًا إيجابيًا بعد مرحلة طغت عليها توترات لا فائدة منها”، لكنها تشدد على أن “الاحترام الكامل بين الدول ذات السيادة هو الأساس الوحيد لعلاقة دائمة ومستقرة وبناءة”.

وتحذر الحركة من أن “جزءًا من الساحة السياسية الفرنسية حوّل، خلال الشهور الماضية، الجزائر إلى شماعة سهلة في نقاشات داخلية بحتة”، معتبرة أن هذا التوظيف “العقيم والخطير” لا يخدم مصالح أي من البلدين.

القراءة المشتركة بين الطرفين تنطلق من قناعة أساسية: فرنسا تعيش أزمة شاملة، وتحتاج إلى الجزائر أكثر مما تحتاج الجزائر إليها.

فالجزائر، كما يؤكد شقرون، أصبحت فاعلًا مؤثرًا على الساحة الإقليمية والدولية، ولها كلمة مسموعة في ملفات فلسطين والصحراء الغربية وليبيا وحتى الحرب في أوكرانيا داخل مجلس الأمن.

كما أن الجزائر تمتلك شراكات واسعة مع دول عديدة مثل إسبانيا وإيطاليا وألمانيا ودول آسيوية، ما يجعلها في موقع قوة في أي مفاوضات مستقبلية مع فرنسا.

● ملف بوعلام صنصال: قراءة دبلوماسية وإنسانية

مصدر الصورة

يشكل قرار العفو عن بوعلام صنصال أحد المؤشرات المهمة على بوادر الانفراج في العلاقات الجزائرية-الفرنسية، لكن قراءة هذا القرار تحتاج إلى دقة وموضوعية.

فالبروفيسور شقرون يوضح أن هذا القرار جاء استجابة لطلب من الرئيس الألماني، الذي التمس من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون النظر في وضع صنصال الصحي، وليس استجابة لضغوط فرنسية.

هذه القراءة تكشف عن ذكاء دبلوماسي جزائري، إذ إن الاستجابة لطلب ألماني تأتي في إطار الأعراف الدبلوماسية، خاصة وأن الرئيس الجزائري سيزور ألمانيا مستقبلًا، وهي زيارة ينتظر أن تفتح آفاقًا واسعة للتعاون. كما أن اختيار ألمانيا بالذات، كما يشير شقرون، يعود لكونها دولة فاعلة وقوية اقتصاديًا داخل الاتحاد الأوروبي، ولها كلمة مسموعة.

من هذا المنظور، فإن قرار العفو عن صنصال يحمل رسالة واضحة: الجزائر لا تتعامل مع الملفات بردود أفعال انفعالية، بل بحسابات دبلوماسية دقيقة تخدم مصالحها الاستراتيجية.

وفي الوقت نفسه، فإن هذا القرار يؤكد التزام الجزائر بالأعراف الإنسانية والدبلوماسية الدولية، دون أن يعني ذلك تنازلًا عن سيادتها أو مبادئها.

● زيارة وزير الداخلية الفرنسي للجزائر: بين الحاجة والشروط

حديث وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز عن زيارة للجزائر، وإصرار الحكومة الفرنسية على إعادة العلاقات إلى طبيعتها، وعودة الدبلوماسيين والموظفين القنصليين إلى عملهم، يعكس مدى الحاجة الفرنسية لترميم العلاقات مع الجزائر.

مصدر الصورة

فالبروفيسور شقرون يشير إلى أن هذا المسعى يحمل آفاقًا واسعة، خاصة للجالية الجزائرية التي يفوق عددها ستة ملايين.

لكن هذه الزيارة، إن تحققت، لن تكون نزهة دبلوماسية عادية، بل ستكون اختبارًا حقيقيًا لجدية الحكومة الفرنسية في تجاوز أخطاء الماضي القريب. فالجزائر، كما يؤكد شقرون وحركة “موداف”، لديها شروط واضحة وخطوط حمراء لن تتنازل عنها، وعلى فرنسا أن تكون مستعدة للتعامل معها بجدية واحترام.

وتؤكد حركة “موداف” أن بناء مستقبل متوازن وهادئ بين البلدين يستلزم خطابًا سياسيًا مسؤولًا، وانسجامًا واضحًا في المواقف، وإنهاء كل أشكال استغلال اسم الجزائر في النقاشات الداخلية بفرنسا، والتزامًا متبادلًا يقوم على الكرامة والسيادة والحوار.

● الشروط الجزائرية لعودة العلاقات: ملفات لا تقبل المساومة

من خلال تصريحات البروفيسور شقرون وحركة “موداف”، يمكن استخلاص مجموعة من الشروط والملفات التي تعتبرها الجزائر أساسية لأي تطبيع في العلاقات مع فرنسا:

1 ـ ملف الذاكرة: خط أحمر لا يقبل التجاوز

يشدد البروفيسور شقرون على أن ملف الذاكرة يمثل خطًا أحمر بالنسبة للجزائر، إذ تواصل فرنسا التلاعب بمسألة الاعتراف بالاستعمار وجرائمها في الجزائر، مثل التفجيرات النووية. ويؤكد شقرون أن الجزائر لا تريد مجرد اعتراف شفهي، بل اعترافًا موثقًا وموقعًا بجرائم الاستعمار، لأن الشعب الجزائري ضحى كثيرًا، ولا يمكن القبول بتجاهل تلك التضحيات.

هذا الموقف يعكس رفضًا جزائريًا قاطعًا للمعايير المزدوجة التي تتعامل بها فرنسا مع التاريخ. ففرنسا، كما يشير شقرون، تمجد تضحياتها في الحرب العالمية الثانية، لكنها تتعامل مع تاريخ الجزائر بنظرة دونية، معتبرة الشعب الجزائري غير ناضج، وهو ما يرفضه شقرون بشدة، مؤكدًا أن الجزائر دولة قوية وشعبها قوي.

2 ـ اتفاقية 1968 وحقوق الجالية الجزائرية

يتحدث شقرون عن ملف آخر يتعلق باتفاقية 1968، التي تمنح امتيازات للمهاجرين الجزائريين في فرنسا، مشيرًا إلى الضغوط التي يتعرض لها العمال والمتقاعدون. فلم تعد فرنسا تسمح للمتقاعدين بالبقاء فيها تسعة أشهر، بل تقلصت المدة إلى ثلاثة أشهر فقط، إضافة إلى التضييق في ما يخص الحصول على العمل.

مصدر الصورة

هذا الملف يكتسب أهمية خاصة في ضوء وجود جالية جزائرية ضخمة في فرنسا، تساهم بشكل فعال في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفرنسية. وكما تشير حركة “موداف”، فإن هذه الجالية “تعد من أكبر الجاليات في أوروبا، وتمثل رابطة متينة وجسرًا قويًا بين ضفتي البحر المتوسط”.

3 ـ التعاون الاقتصادي والغاز: ورقة ضغط جزائرية

يتوقع البروفيسور شقرون أن تطالب فرنسا الجزائر بفتح المجال للاقتصاد والتبادل، خاصة في ما يتعلق بالغاز، الذي تحتاجه باريس بشدة، في وقت تستفيد منه إسبانيا وإيطاليا أكثر. وهنا تبرز قوة الموقف الجزائري، إذ إن الجزائر أغلقت باب الاستيراد من فرنسا، خصوصًا في المواد الأساسية، بفضل قدرتها الصناعية المتنامية.

هذا التحول يعكس نضج الاقتصاد الجزائري، وقدرته على الاعتماد على الذات، وهو ما يجعل فرنسا في موقف الطالب، لا المانح. ويشير شقرون إلى أن الأزمة في فرنسا انعكست على المجتمع، حيث تعاني فئات واسعة من ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة وثقل الفواتير، ما أدى إلى تفاقم الفقر.

4 ـ احترام السيادة الجزائرية وعدم التدخل

تشدد حركة “موداف” على أن “الاحترام الكامل بين الدول ذات السيادة هو الأساس الوحيد لعلاقة دائمة ومستقرة وبناءة”، وأن “الجزائر دولة ذات سيادة، تمد يدها لكل من يحترم هذه السيادة، وتبقى ثابتة على مبادئها: الكرامة، التوازن، المسؤولية”.

هذا الشرط يعني عمليًا وقف التصريحات الاستفزازية الصادرة عن بعض السياسيين الفرنسيين، وعدم استخدام الجزائر كورقة في الصراعات السياسية الداخلية الفرنسية. وهو ما تؤكده حركة “موداف” بقولها إن “جزءًا من الساحة السياسية الفرنسية حوّل الجزائر إلى شماعة سهلة في نقاشات داخلية بحتة”، معتبرة أن هذا “لا يخدم مصالح فرنسا ولا الجزائر”.

● مستقبل العلاقات: بين الإمكان والشروط

السؤال المحوري الذي يطرح نفسه: هل يمكن أن تعود العلاقات الجزائرية-الفرنسية إلى ما كانت عليه؟ الإجابة، بحسب التصريحات المتاحة، هي: نعم، لكن بشروط واضحة، وليس بالضرورة إلى نفس النموذج السابق.

البروفيسور شقرون يعبر عن أمله في أن تكون فرنسا جادة في مساعيها، موضحًا أن الجزائر لا تخسر شيئًا من القطيعة، لأنها تمتلك شراكات واسعة مع دول عديدة.

ويؤكد أن الجزائر يمكن أن تبتعد عن فرنسا بسهولة، لكنها قد تفتح أبوابها إذا التزمت باريس بما يتم الاتفاق عليه، خاصة في ما يتعلق بالتبادل التجاري والمواد الأساسية.

من جهتها، تؤكد حركة “موداف” أن الجزائر “تتلقى كل خطوة تهدئة صادرة عن الطبقة السياسية الفرنسية أو دبلوماسيتها باهتمام، انسجامًا مع مبدأ أساسي في العلاقات الدولية: المسؤولية المتبادلة”، مشيرة إلى أن “الاحترام يقابله الاحترام، والتهدئة تقابلها التهدئة”.

هذه القراءة تعني أن الجزائر لا تغلق الباب أمام تطبيع العلاقات، لكنها تضع شروطًا واضحة، وتتعامل بواقعية مع التحولات الفرنسية، دون انبهار أو تسرع. فالجزائر، كما يقول شقرون، تتعامل مع الأحداث بعمق وتحليل، وهو ما جعل دولًا عديدة تغير نظرتها لها.

● الرهان على ألمانيا: استراتيجية جزائرية ذكية

في قراءة استراتيجية عميقة، يشير البروفيسور شقرون إلى أن الزيارة المرتقبة للرئيس الجزائري إلى ألمانيا تحمل أبعادًا تتجاوز العلاقات الثنائية بين الجزائر وألمانيا.

فاختيار ألمانيا بالذات، كما يوضح شقرون، يعود لكونها دولة فاعلة وقوية اقتصاديًا داخل الاتحاد الأوروبي، ولها كلمة مسموعة، كما أن الاتحاد الأوروبي يسعى منذ 2005 إلى إعادة بناء علاقاته مع الجزائر.

هذا الرهان على ألمانيا يحمل رسالة واضحة لفرنسا: الجزائر لا تعاني من عزلة أوروبية، بل تمتلك بدائل استراتيجية قوية، وأن فرنسا ليست الخيار الوحيد أو الأهم بالنسبة للجزائر.

كما أن هذه الاستراتيجية تعكس نضج الدبلوماسية الجزائرية، التي تعمل على تنويع شراكاتها وعدم الاعتماد على طرف واحد.

ويؤكد شقرون أن خطوة الرئيس تبون ستكون لها انعكاسات على العلاقات مع فرنسا، حيث سارعت باريس إلى الترحيب بفتح صفحة جديدة مع الجزائر.

هذا التسارع الفرنسي يعكس قلقًا من أن تتحول الجزائر بشكل كامل نحو شركاء أوروبيين آخرين، ما يعني خسارة فرنسا لورقة استراتيجية مهمة في منطقة المتوسط والمغرب العربي.

● دور اليمين المتطرف: عقبة أمام التطبيع

أحد العوامل المهمة التي يشير إليها كل من البروفيسور شقرون وحركة “موداف” في تصريحاتهما لـ “الجزائر الآن” هو دور اليمين المتطرف في تعقيد العلاقات الجزائرية-الفرنسية. فشقرون يعتبر أن الحكومة الفرنسية الحالية تسعى لإصلاح ما أفسده اليمين المتطرف، مشيرًا إلى أن هذا التطور يمثل “صفعة لليمين المتطرف الذي يهاجم الجزائر بدافع عنصري”.

ويستشهد شقرون بتصريحات سيغولين روايال، التي قالت “دعونا من الجزائر”، عندما هاجمت اليمين المتطرف، مؤكدة أن الكثير من المؤسسات الفرنسية يديرها جزائريون درسوا في مدارس وجامعات جزائرية. هذه الشهادة تكشف عن حقيقة مهمة: الجالية الجزائرية ليست عبئًا على فرنسا، بل هي جزء أساسي من نسيجها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

من جهتها، تحذر حركة “موداف” من استمرار توظيف الجزائر في النقاشات الداخلية الفرنسية، معتبرة ذلك “عقيمًا وخطيرًا”، ومؤكدة أن بناء علاقة سليمة يستلزم “إنهاء كل أشكال استغلال اسم الجزائر في النقاشات الداخلية بفرنسا”.

● الأزمة الفرنسية: عامل ضغط لصالح الجزائر

أحد العوامل المهمة التي تعزز الموقف التفاوضي الجزائري هو الأزمة الشاملة التي تعيشها فرنسا. يشير البروفيسور شقرون إلى أن فرنسا تعيش “أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة”، انعكست على المجتمع، حيث تعاني فئات واسعة من ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة، ما أدى إلى تفاقم الفقر، حتى إن الكثير من المواطنين لم يعودوا يتناولون سوى وجبة واحدة في اليوم.

هذه الأزمة تجعل فرنسا في حاجة ماسة إلى إعادة العلاقات مع الجزائر، خاصة في ما يتعلق بالغاز والتبادل التجاري. ويؤكد شقرون أن الرئيس ماكرون يعيش اليوم وضعًا صعبًا بسبب الأزمة الشاملة في بلاده، ويبحث عن بديل يتمثل في إعادة العلاقات مع الجزائر، لأن قطع العلاقات تسبب “أرقًا نفسيًا وعقليًا وفكريًا” لفرنسا.

هذا التحليل يعكس فهمًا عميقًا للتوازنات الإقليمية والدولية، وقدرة الجزائر على استثمار الظروف الصعبة التي تمر بها فرنسا لتحقيق مكاسب استراتيجية، دون الوقوع في فخ الابتزاز أو التنازلات المجانية.

● الجزائر: من موقع القوة لا الضعف

ما يميز القراءة الجزائرية للوضع الراهن، كما تعكسها تصريحات البروفيسور شقرون وحركة “موداف”، هو الحديث من موقع القوة لا الضعف. فالجزائر، كما يؤكد شقرون، أصبحت فاعلًا مؤثرًا على الساحة الإقليمية والدولية، ولها كلمة مسموعة في ملفات حساسة، كما أنها تمتلك شراكات واسعة مع دول عديدة.

وتؤكد حركة “موداف” هذا التوجه بقولها إن “الجزائر دولة ذات سيادة، تمد يدها لكل من يحترم هذه السيادة، وتبقى ثابتة على مبادئها”. هذه اللغة الواضحة والحازمة تعكس ثقة في النفس، ووعيًا بالقدرات الذاتية، وإدراكًا لقيمة السيادة والكرامة الوطنية.

● العودة ممكنة ولكن بشروط واضحة

في الختام، يمكن القول إن العلاقات الجزائرية-الفرنسية تقف اليوم عند مفترق طرق.

التحولات الأخيرة في الحكومة الفرنسية، والخطاب الجديد لوزيري الداخلية والخارجية، وقرار العفو عن صنصال، وحديث وزير الداخلية الفرنسي عن زيارة للجزائر، كلها مؤشرات على بوادر انفراج محتملة.

لكن هذا الانفراج، كما يتضح من تصريحات البروفيسور الجيلالي شقرون والأمين العام لحركة “موداف” ناصر خبات، مرهون بشروط واضحة وصارمة:

أولًا، اعتراف فرنسي موثق وموقع بجرائم الاستعمار، وليس مجرد تصريحات عابرة أو مواقف فردية. ملف الذاكرة يمثل خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه أو المساومة عليه.

ثانيًا، احترام حقوق الجالية الجزائرية في فرنسا، والعودة إلى تطبيق اتفاقية 1968 بشكل كامل، دون تضييق أو ضغوط على العمال والمتقاعدين.

ثالثًا، احترام كامل للسيادة الجزائرية، وإنهاء كل أشكال استغلال اسم الجزائر في الصراعات السياسية الداخلية الفرنسية.

رابعًا، خطاب سياسي مسؤول وانسجام واضح في المواقف، بعيدًا عن التصريحات الاستفزازية والسياسات الإملائية.

خامسًا، تعاون اقتصادي قائم على المصلحة المتبادلة والاحترام، وليس على علاقة تبعية أو هيمنة.

هل يمكن أن تعود العلاقات إلى ما كانت عليه؟

الإجابة هي: نعم، لكن ليس بالضرورة إلى نفس النموذج السابق. الجزائر اليوم ليست جزائر الأمس. إنها دولة أقوى اقتصاديًا، أكثر تأثيرًا دبلوماسيًا، وأوسع انفتاحًا على العالم. لديها بدائل استراتيجية متعددة، وشراكات متنوعة، وموقف تفاوضي قوي.

فرنسا، من جهتها، تعيش أزمة شاملة، وتحتاج إلى الجزائر في ملفات حيوية مثل الطاقة والتبادل التجاري والاستقرار في منطقة المتوسط والمغرب العربي. هذا الواقع يجعل باريس في موقف الطالب، لا المانح، وهو ما يفسر التحول في الخطاب الفرنسي الرسمي.

● الدبلوماسية الجزائرية: نموذج في التوازن والحكمة

ما يميز المقاربة الجزائرية، كما تعكسها التصريحات المتاحة، هو التوازن بين الحزم والانفتاح، بين الثبات على المبادئ والمرونة في الوسائل. الجزائر لا تغلق الباب أمام الحوار، لكنها تضع شروطًا واضحة. إنها تستجيب لبوادر التهدئة، لكنها تطالب بأفعال لا بأقوال.

يقول البروفيسور شقرون إن الجزائر “تسعى دائمًا إلى السلم والأمن والحوار البناء، وإلى الدبلوماسية الإنسانية، التي تفتح آفاقًا واسعة للعلاقات بين مختلف دول العالم”. وتؤكد حركة “موداف” أن “نبض كل جزائري وجزائرية هو نبض الوطن… في الجزائر أو في أي أرض تحتضن أبناء الجالية”.

هذه اللغة تعكس نضجًا دبلوماسيًا، ووعيًا بالمسؤولية الوطنية، والتزامًا بالقيم الإنسانية والدبلوماسية الدولية. الجزائر لا تبحث عن الصدام من أجل الصدام، لكنها لا تقبل أيضًا بالإملاءات أو الابتزاز. إنها تتعامل من موقع الند للند، ومن منطلق السيادة الكاملة، ومن قاعدة الاحترام المتبادل.

رسالة إلى الطرفين

إلى فرنسا، الرسالة واضحة: الجزائر اليوم ليست جزائر الستينيات أو السبعينيات. إنها دولة قوية، لها وزنها الإقليمي والدولي، وتمتلك بدائل استراتيجية متعددة. إذا أرادت باريس فعلًا إعادة بناء علاقات سليمة مع الجزائر، فعليها أن تتعامل معها باحترام كامل، وأن تعترف بأخطاء الماضي، وأن تتوقف عن استخدام الجزائر كورقة في صراعاتها الداخلية.

إلى الجزائر، الرسالة هي: استمري في نهجك القائم على الكرامة والسيادة والتوازن. لا تتسرعي في الانفتاح، ولا تنبهري بالكلام المعسول. راقبي الأفعال لا الأقوال، واجعلي من مصلحة الوطن والشعب البوصلة الوحيدة في قراراتك. لديك من القوة والشراكات ما يجعلك في موقع تفاوضي ممتاز، فلا تفرطي فيه.

● نحو نموذج جديد من العلاقات

ربما تكون الأزمة الأخيرة فرصة لإعادة تأسيس العلاقات الجزائرية-الفرنسية على قواعد جديدة، أكثر صحة وتوازنًا واحترامًا. علاقات لا تقوم على الماضي الاستعماري، بل على الحاضر والمستقبل. علاقات لا تحكمها عقدة الذنب من جهة، أو عقدة التفوق من جهة أخرى، بل يحكمها الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة.

الجالية الجزائرية في فرنسا، التي يفوق عددها ستة ملايين، كما ذكر شقرون، تمثل جسرًا طبيعيًا بين البلدين. هذه الجالية، التي تساهم بشكل فعال في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفرنسية، كما تؤكد حركة “موداف”، تستحق أن تعيش في ظروف كريمة، وأن تحظى بالاحترام والتقدير، لا أن تكون رهينة للصراعات السياسية أو ضحية للخطابات العنصرية.

التاريخ المشترك بين الجزائر وفرنسا، رغم مأساويته، يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل، إذا تم التعامل معه بصدق وشجاعة. الاعتراف بجرائم الاستعمار ليس إهانة لفرنسا، بل هو خطوة ضرورية نحو المصالحة الحقيقية مع الذات ومع الآخر.

في الأخير ..

العلاقات الجزائرية-الفرنسية تمر اليوم بمنعطف تاريخي. بوادر الانفراج موجودة، لكنها هشة وقابلة للانتكاس. الاختبار الحقيقي لن يكون في التصريحات، بل في الأفعال. في الالتزام بالوعود، وفي احترام السيادة، وفي الاعتراف بالحقائق التاريخية.

الجزائر، كما يؤكد البروفيسور شقرون وحركة “موداف”، مستعدة للحوار والتعاون، لكن من موقع الند للند، ومن منطلق الكرامة والسيادة.

فرنسا مدعوة للاستجابة لهذه المقاربة، إذا أرادت فعلًا بناء علاقة سليمة ومستدامة مع الجزائر.

● المستقبل مفتوح على احتمالات متعددة.

الخيار بيد الطرفين، لكن الجزائر، على ما يبدو، في وضع أفضل للانتظار، لأنها تملك البدائل، وتملك الثقة بالنفس، وتملك الشراكات، وتملك – قبل كل شيء – شعبًا وقيادة يدركان قيمة السيادة والكرامة الوطنية.

كما تقول حركة “موداف” في ختام بيانها: “الجزائر دولة ذات سيادة. تمد يدها لكل من يحترم هذه السيادة. وتبقى ثابتة على مبادئها: الكرامة، التوازن، المسؤولية”. هذه هي الخلاصة، وهذا هو المبدأ، وهذا هو الطريق نحو علاقة جديدة، إن أرادت فرنسا ذلك حقًا.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا