● قراءة في الزيارة المرتقبة لوزير الداخلية الفرنسي إلى الجزائر: بين الواقعية السياسية والملفات المعقدة
الجزائرالٱن _ أكد الدكتور رشيد بن عيسى، الخبير في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية، في تصريحات خاصة لـ”الجزائر الآن”، أن الزيارة المرتقبة لوزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز إلى الجزائر قد تشكل نقطة تحول في العلاقات الثنائية، لكنه اشترط توفر إرادة سياسية حقيقية من الجانب الفرنسي لتجاوز الخطاب الدبلوماسي إلى أفعال ملموسة على الأرض.
● توقعات بتحريك جزئي للمياه الراكدة
وأوضح بن عيسى أن توقعاته من هذه الزيارة تتراوح بين التفاؤل الحذر والواقعية السياسية، مشيرًا إلى أن ما لفت انتباهه في تصريحات الوزير نونيز هو اعترافه الصريح بفشل سياسة المواجهة مع الجزائر، “وهو اعتراف نادر في الخطاب الدبلوماسي الفرنسي المعروف بصلابته”.
وأضاف المتحدث أن هذه الزيارة تمثل خطوة جدية نحو إعادة ضبط العلاقات بين البلدين، لكنه استدرك قائلًا إنه لا يتوقع معجزات دبلوماسية، معللًا ذلك بأن العلاقات الجزائرية الفرنسية معقدة ومثقلة بإرث تاريخي ثقيل لا يمكن حل كل قضاياه العالقة في زيارة واحدة.
وأشار الخبير الاستراتيجي إلى أن ما يبعث على بعض التفاؤل هو التنسيق على أعلى مستوى بين الرئيس ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون بوساطة ألمانية، مؤكدًا أن هذا يعني أن الملف أصبح استراتيجيًا ويُدار من قمة الهرم السياسي وليس مجرد قضية دبلوماسية عادية.
● شروط محددة لتحريك المياه الراكدة
وفيما يتعلق بإمكانية تحريك المياه الراكدة بين البلدين، أكد بن عيسى أن هذه الزيارة قادرة على تحقيق ذلك لكن بشروط محددة، لافتًا إلى أن الجزائر أرسلت إشارة إيجابية قوية بالإفراج عن الكاتب بوعلام صنصال، واصفًا إياها بأنها بادرة إنسانية وسياسية في آن واحد تستحق ردًا فرنسيًا بنفس المستوى.
وشدد المتحدث على أن المياه الراكدة لن تتحرك بالكلام الدبلوماسي المنمق فقط، بل بخطوات ملموسة على الأرض، داعيًا فرنسا إلى إثبات أن تغيير خطابها يصاحبه تغيير في سياساتها الفعلية تجاه الجزائر، محذرًا من أنه في حال عدم حدوث ذلك فإننا سنكون أمام مجرد هدنة مؤقتة تنتهي بعودة التوتر من جديد.
وتوقع الخبير أن نشهد تحريكًا جزئيًا للمياه الراكدة، خاصة في الملفات التقنية والإجرائية مثل التأشيرات والتصاريح القنصلية، بينما رجح أن الملفات الكبرى كالذاكرة التاريخية ومراجعة اتفاقية 1968 ستحتاج إلى وقت أطول ومفاوضات أعمق.
● دوافع استراتيجية وراء التحول الفرنسي
وحول الأسباب التي تدفع فرنسا لتغيير نهجها في هذا التوقيت بالذات، عدد بن عيسى عدة عوامل استراتيجية، أولها تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، مضيفًا أن فرنسا لا تستطيع أن تخسر الجزائر أيضًا في هذه المرحلة الحرجة.
وذكر المتحدث عاملًا ثانيًا يتمثل في الحاجة الملحة للطاقة الجزائرية في ظل الأزمة الأوروبية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، موضحًا أن الجزائر مورد طاقوي استراتيجي لأوروبا، وأن فرنسا تدرك جيدًا أن سياسة المواجهة قد تدفع الجزائر لتقليص تعاونها الطاقوي أو تنويعه بشكل يضر بالمصالح الأوروبية.
وأشار إلى عامل ثالث يتعلق بالضغوط الأوروبية على فرنسا، خاصة من ألمانيا، لحل ملفاتها مع الجزائر، مؤكدًا أن أوروبا لا تريد جارًا متوترًا في جنوب المتوسط، وأن الجزائر شريك أساسي في ملفات الهجرة والأمن والطاقة.
● ملف الذاكرة: الاختبار الحقيقي للجدية الفرنسية
وعن الملفات المتوقع طرحها خلال الزيارة، اعتبر الدكتور بن عيسى أن ملف الذاكرة التاريخية هو الأصعب والأكثر حساسية، متوقعًا أن يُطرح على الطاولة لكن دون اختراقات كبيرة خلال هذه الزيارة.
وأوضح أن الجزائر تطالب باعتراف فرنسي كامل بجرائم الاستعمار بما في ذلك المجازر والجرائم ضد الإنسانية، والاعتذار الرسمي عن 132 عامًا من الاحتلال، مؤكدًا أن هذا مطلب غير قابل للتفاوض بالنسبة للجزائر ويمثل شرطًا أساسيًا لأي مصالحة حقيقية.
وأشار المتحدث إلى أن المشكلة تكمن في أن فرنسا لا تزال تخشى التبعات القانونية والسياسية لهكذا اعتراف، خاصة فيما يتعلق بالتعويضات المحتملة والسوابق التي قد تفتحها مع مستعمراتها السابقة الأخرى في إفريقيا وآسيا.
ورجح الخبير أن تكتفي فرنسا في هذه المرحلة بخطوات رمزية إضافية مثل الاعتراف بمزيد من المجازر أو إعادة رفات بعض الشهداء، لكن دون الذهاب إلى الاعتراف الكامل والاعتذار الرسمي الذي تطالب به الجزائر.
واستدرك قائلًا إن أي تقدم في هذا الملف مهما كان محدودًا سيكون إيجابيًا ويفتح الباب لمزيد من الحوار مستقبلًا، مشددًا على أن هذا الملف يبقى الاختبار الحقيقي لجدية فرنسا في بناء علاقة جديدة مع الجزائر.
التصاريح القنصلية: قضية إنسانية مستعجلة
وبخصوص ملف التصاريح القنصلية، شدد بن عيسى على أن هذا الملف يجب أن يُحل بسرعة لأنه يمس كرامة المواطنين مباشرة، واصفًا استخدام جثامين المتوفين كورقة ضغط سياسي بأنه أمر غير مقبول أخلاقيًا وإنسانيًا.
وتوقع أن يكون هذا الملف من الأولويات في النقاش لأنه يحمل بعدًا إنسانيًا قويًا ويمكن حله بسهولة نسبيًا إذا توفرت الإرادة السياسية، موضحًا أن فرنسا تعقد إجراءات إصدار تصاريح الدفن للضغط على الجزائر في ملف ترحيل الرعايا، واصفًا هذا النهج بأنه قصير النظر.
وأشار المتحدث إلى توقعه بحدوث تفاهم حول هذا الملف، ربما يشمل تبسيط الإجراءات القنصلية من الجانب الفرنسي مقابل تعاون جزائري أكبر في بعض الملفات الأمنية المشتركة، لكنه شدد على ضرورة أن يكون واضحًا أن القضايا الإنسانية لا يمكن ربطها بالمساومات السياسية.
التأشيرات: قرار فرنسي خاطئ يتطلب إلغاءً كاملًا
وفيما يخص ملف التأشيرات، وصف الخبير قرار سبتمبر 2021 بتقليص التأشيرات بنسبة 50% بأنه خطأ استراتيجي فادح من فرنسا، مؤكدًا أن هذا القرار أضر بالعلاقات بين الشعبين أكثر مما أضر بالحكومة الجزائرية.
وتوقع بن عيسى أن تكون الجزائر حازمة في مطالبتها بإلغاء هذا القرار كاملاً، مشيرًا إلى أن هذا الملف لا يقبل الحلول الوسط لأنه يمس ملايين الجزائريين الذين لهم عائلات ومصالح في فرنسا، ويعيق التبادل الثقافي والاقتصادي والعلمي بين البلدين.
وأوضح المتحدث أن المشكلة تكمن في أن فرنسا تربط هذا الملف بملف الهجرة غير الشرعية وترحيل الرعايا، وتريد من الجزائر تقديم تنازلات في هذا الجانب، معتبرًا أن الحل يكمن في فصل الملفات وإيجاد صيغة تعاون جديدة في قضايا الهجرة تحترم سيادة البلدين وكرامة المواطنين.
ورجح أن نشهد خلال الزيارة أو بعدها بوقت قصير تخفيفًا جزئيًا لقرار تقليص التأشيرات كبادرة حسن نية، على أن يتبعه حوار أوسع حول إيجاد صيغة نهائية ترضي الطرفين.
● اتفاقية 1968: تحديث شامل لنص متقادم
وحول اتفاقية 1968 المنظمة لحركة الأشخاص، أكد بن عيسى أن هذه الاتفاقية أصبحت نصًا تاريخيًا يحتاج إلى تحديث شامل، متوقعًا أن يُطرح موضوع مراجعتها خلال الزيارة لكن المفاوضات الفعلية ستستغرق وقتًا طويلاً.
وأوضح أن الجزائر تريد اتفاقية جديدة تضمن حقوق جاليتها في فرنسا وتسهل حركة مواطنيها خاصة الطلاب والباحثين ورجال الأعمال، بينما تسعى فرنسا إلى صيغة تمنحها مزيدًا من التحكم في تدفقات الهجرة وفق رؤيتها الأمنية.
وشدد المتحدث على أن إيجاد توازن بين هذه المصالح المتباينة يتطلب حوارًا صريحًا وشفافًا ومفاوضات معقدة، مؤكدًا أن نجاح هذا الملف سيكون مؤشرًا قويًا على إمكانية بناء شراكة حقيقية بين البلدين قائمة على الندية والاحترام المتبادل.
● ثلاثة سيناريوهات محتملة
وفي ختام تصريحاته لـ”الجزائر الآن”، قدم الدكتور بن عيسى ثلاثة سيناريوهات محتملة لنتائج الزيارة المرتقبة.
ـ السيناريو الأول، ووصفه بالمتفائل، يتمثل في نجاح الزيارة في إرساء أسس جديدة للعلاقات مع تقدم ملموس في بعض الملفات الإجرائية وبداية حوار جاد حول الملفات الكبرى.
ـ أما السيناريو الثاني، الذي اعتبره الأرجح، فيتضمن تحقيق انفراج جزئي يحل بعض القضايا التقنية كالتأشيرات والتصاريح لكنه يؤجل الملفات الأصعب كالذاكرة واتفاقية 1968 لمفاوضات لاحقة.
ـ وبخصوص السيناريو الثالث التشاؤمي، حذر من فشل الزيارة في تحقيق اختراقات حقيقية بسبب تمسك كل طرف بمواقفه القصوى، مما قد يؤدي إلى هدنة مؤقتة فقط.
● الكرة في الملعب الفرنسي
وختم الخبير الجزائري تصريحاته بالتأكيد على أن العلاقات الجزائرية الفرنسية لن تُبنى على أسس صحية إلا إذا أدركت فرنسا أن الجزائر اليوم ليست جزائر الستينيات أو السبعينيات، مشيرًا إلى أنها أمام دولة ذات سيادة كاملة بإمكانيات هائلة وإرادة سياسية قوية ورؤية استراتيجية واضحة.
وشدد على أن الكرة الآن في ملعب فرنسا، متسائلًا: “هل ستكتفي بإدارة الأزمة، أم ستملك الشجاعة لفتح صفحة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والاعتراف بالتاريخ؟”، مؤكدًا أن الأيام القادمة ستكشف الإجابة.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة