مقال رأي | عشرون يومًا كافية لفضح عدالة فرنسا!
عشرون يومًا فقط! هذا كل ما استغرقه الأمر لتحول “العدالة الفرنسية” من صرامة القاضي الذي لا يحابي أحدًا، إلى رحمة السلطان التي تنهمر على من كان يومًا في قمة الهرم السياسي. عشرون يومًا كافية لكي تُطوى صفحة قضية ظلت لسنوات محل جدل دولي، قضية تورط فيها رئيس سابق في التآمر للحصول على تمويل غير شرعي من نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، قضية كان من المفترض أن تكون درسًا في استقلالية القضاء وعدالته.
عندما صدر الحكم على نيكولا ساركوزي بالسجن خمس سنوات، نفخت الأبواق الفرنسية بكل قوة: “الجميع سواسية أمام القانون”، “لا أحد فوق القانون”، “هذه هي الديمقراطية الحقيقية”. تصريحات رنانة وعناوين براقة ملأت صفحات الصحف وشاشات التلفزيون، وكأن فرنسا اكتشفت فجأة معنى العدالة، وقررت أن تقدم للعالم درسًا في النزاهة والشفافية.
لكن سرعان ما تبين أن كل ذلك الضجيج لم يكن سوى ذر للرماد في العيون. عشرون يومًا في سجن لا سانتيي، وها هو ساركوزي يخرج منه ليُوضع تحت “الرقابة القضائية”، مع حظر على التواصل ومنع من السفر، كما لو أن هذه القيود تعادل خمس سنوات من السجن الفعلي!
لنتذكر جيدًا طبيعة التهم الموجهة لساركوزي. لم يُدَن بجريمة عادية أو مخالفة إدارية بسيطة، بل أُدين بالتآمر للحصول على تمويل غير قانوني لحملته الانتخابية من نظام معمر القذافي في ليبيا عام 2007. هذه ليست مسألة صغيرة؛ إنها تهز أسس الديمقراطية الفرنسية ذاتها، وتكشف عن شبكة معقدة من الفساد والتواطؤ الدولي.
قضية ساركوزي مع القذافي ظلت لسنوات طويلة محل جدل وتحقيقات، وكشفت عن علاقات مشبوهة بين باريس وطرابلس، علاقات قامت على المصالح والأموال، بعيدًا عن أي اعتبارات أخلاقية أو قانونية. وعندما سقط نظام القذافي، ظهرت وثائق ووثائق تشير إلى أن الرئيس الفرنسي السابق حصل على ملايين الدولارات لتمويل حملته الانتخابية.
لكن يبدو أن القضاء الفرنسي قرر فجأة أن هذه الجريمة الخطيرة، التي وصفتها القاضية ناتالي غافارينو بـ”الخطورة الاستثنائية”، لا تستحق أكثر من عشرين يومًا في السجن! وكأن قضية بهذا الحجم والتعقيد يمكن أن تُطوى وتُنسى بهذه السرعة، وكأن الأمر لا يتعلق بفساد سياسي على أعلى مستوى، بل بمخالفة سير عادية.
ما يثير السخرية حقًا هو التناقض الصارخ بين تبرير السجن وتبرير الإفراج. عندما حُكم على ساركوزي، قالت القاضية إن العقوبة تُنفذ فورًا بسبب “الخطورة الاستثنائية” للجريمة. لكن بعد عشرين يومًا فقط، هذه الخطورة نفسها لم تعد موجودة، أو على الأقل لم تعد كافية لإبقاء الرئيس السابق خلف القضبان!
فهل تبخرت “الخطورة الاستثنائية” في غضون ثلاثة أسابيع؟ أم أن الضغوط السياسية والنفوذ الذي لا يزال يتمتع به ساركوزي داخل دوائر السلطة في باريس هي التي بخرت هذه الخطورة؟
ما حدث مع ساركوزي ليس استثناءً في التاريخ الفرنسي، بل هو تأكيد لقاعدة راسخة، في فرنسا، كما في كثير من الديمقراطيات الغربية، هناك عدالتان، عدالة للأقوياء وعدالة للضعفاء. عدالة لمن كانوا في السلطة ولا زالت لهم أذرع ممتدة في مفاصل الدولة، وعدالة لمن لا حول لهم ولا قوة.
لو كان المتهم مهاجرًا من أصول عربية أو إفريقية، متهمًا بسرقة بسيطة أو حتى بدون جريمة، لكان قضى سنوات في السجن دون أن يلتفت إليه أحد. لكن عندما يتعلق الأمر برئيس سابق، فإن القواعد تتغير، والقانون يُطوّع، والعدالة تُنتقى.
ومن الطرائف المحزنة في قرار الإفراج، فرض حظر على ساركوزي من التواصل مع وزير العدل الحالي جيرالد دارمانان. هذا الحظر في حد ذاته اعتراف ضمني بأن هناك علاقات وتأثيرات متبادلة بين الرئيس السابق وأصحاب القرار الحاليين، وأن هناك مخاوف من أن يؤثر ساركوزي على مجريات العدالة.
لكن السؤال هو: إذا كانت المحكمة تخشى من هذا التأثير، فلماذا أفرجت عنه من الأساس؟ ولماذا لم تكتفِ بإبقائه في السجن حتى تنتهي إجراءات الاستئناف؟ أليس هذا دليلًا آخر على أن القرار كان سياسيًا بامتياز، وليس قضائيًا؟
فرنسا التي تتفنن في تقديم دروس الديمقراطية وحقوق الإنسان لدول الجنوب، فرنسا التي تنصب نفسها حكمًا على الأنظمة السياسية في إفريقيا والشرق الأوسط، فرنسا التي تطالب الآخرين بالشفافية والنزاهة، هي نفسها تفشل في تطبيق هذه المعايير على نفسها.
قضية ساركوزي تكشف بوضوح أن الديمقراطية الفرنسية ليست سوى واجهة براقة، وراءها منظومة من الامتيازات والمحاباة للنخبة السياسية. إنها ديمقراطية انتقائية، تُطبق على الضعفاء وتُستثنى منها الأقوياء.
ما حدث مع ساركوزي يجب أن يكون درسًا لكل من يصدق الدعاية الغربية عن “سيادة القانون” و”استقلالية القضاء”. العدالة الحقيقية لا تقاس بالشعارات والخطابات الرنانة، بل تُقاس بالممارسة الفعلية، بمساواة الجميع أمام القانون دون استثناء.
وطالما بقيت هناك عدالتان، واحدة للأقوياء وأخرى للضعفاء، فإن كل الحديث عن الديمقراطية والقيم الغربية لن يكون سوى ذر للرماد في العيون، تمامًا كما فعلت فرنسا في قضية ساركوزي.
عشرون يومًا كانت كافية لفضح الديمقراطية الفرنسية، وكافية لنسف كل الأوهام عن “الجميع سواسية أمام القانون”. لكنها للأسف لم تكن كافية لمحاسبة رئيس سابق على جريمة بذاك الحجم..
فليسقط إذن قناع الديمقراطية، وليعلم العالم أن العدالة في فرنسا، كما في غيرها من العواصم الغربية، لها لون واحد: لون الأقوياء والمتنفذين.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة