الجزائر الآن _ بعد تصويت مجلس الأمن الدولي على تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو) لعام إضافي، دخلت القضية الصحراوية مرحلة جديدة من التوازن السياسي والدبلوماسي.
فالقرار الأممي الأخير لم يكن مجرد إجراء إداري لتجديد عهدة البعثة، بل شكّل تحولًا استراتيجيًا في بنية المواقف الدولية، بين محاولات المغرب فرض مشروع الحكم الذاتي كأفق وحيد للحل، وتمسك الجزائر والمجتمع الدولي بمبدأ حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره كمرجعية قانونية لا يمكن تجاوزها.
● بين الموقف الأمريكي والشرعية الدولية: قراءة مزدوجة
في وقت أكّد فيه مستشار الرئيس الأمريكي السابق، مسعد بولس، أن اعتراف إدارة ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ما زال قائمًا ضمن رؤية استراتيجية طويلة الأمد، فقد حملت تصريحاته الأخيرة تحولًا دقيقًا في الموقف الأمريكي.
فبولس أوضح أن واشنطن تفرّق اليوم بين موقفها الوطني كدولة داعمة للمغرب، ودورها الدولي كـ “وسيط أممي” يسعى إلى تسوية شاملة تحفظ مبدأ تقرير المصير.
هذا التوازن الجديد في الخطاب الأمريكي يعكس – كما أوضح وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف – نقلة نوعية في التعاطي الأمريكي من الانحياز إلى الحياد النسبي، بما يعيد للشرعية الأممية موقعها الطبيعي في إدارة الملف.
● إعادة الشرعية الأممية وإضعاف مشروعية الحل الأحادي
القرار الأخير لمجلس الأمن أعاد وضع الملف ضمن مرجعية القانون الدولي، وبذلك عطّل استراتيجية الربط الأحادي للحكم الذاتي التي حاولت الرباط فرضها كخيار وحيد.
هذا التحول ليس مجرد سطر في نص قرار؛ إنه استعادة لقاعدة منهجية تقضي بأن أي تسوية لا تراعي حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره ستظل هشة وغير قابلة للاستدامة.
عمليًا، تجديد ولاية المينورسو مع النص الصريح على حق تقرير المصير يضع شروطًا معيارية تقيّد أي محاولة لاحقة لتطويع المسألة لمصالح أحادية، وهو ما يضرب في الصميم مقاربة “الشرعية المنقوصة” التي اعتمدت على اعترافات مزدوجة أو مواقف تنفيذية ظرفية.
● فشل المناورة المغربية ومحاولة تفكيك المينورسو
كشف عطاف، في حوار مع قناة الجزائر الدولية 24، أن الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن شهدت محاولة مغربية واضحة لتغيير طبيعة مهام بعثة المينورسو أو تقليص دورها تدريجيًا، بما يفضي إلى طمس جوهر مهمتها الأصلية: تنظيم استفتاء تقرير المصير.
لكن المشروع المغربي الأولي وُوجه برفض دولي واسع، إذ بادرت ثماني دول أعضاء إلى اقتراح تعديلات جوهرية أعادت التوازن إلى نص القرار، وأسقطت محاولة حصر الحل في خيار الحكم الذاتي.
النتيجة كانت تجديد ولاية المينورسو كاملة، مع إعادة التأكيد على المرجعية القانونية الدولية التي تعتبر الصحراء الغربية قضية تصفية استعمار وليست نزاعًا إقليميًا.
● دور الفاعلين الدوليين والتحول التكتيكي في الموقف الأمريكي
تصريحات مسؤولين أميركيين أدت دورًا مزدوجًا: من جهة حافظت على بعض المكتسبات الدبلوماسية للمغرب عبر إشارات سابقة، ومن جهة أخرى أعادت واشنطن تحديد دورها كوسيط بالاستناد إلى المبادئ الأممية.
هذا التبدل يُظهر نضجًا تكتيكيًا في السياسة الخارجية الأميركية — ليس بالضرورة تغييرًا جذريًا، لكن بما يكفي لإعادة توازن المفاوضات وجعل واشنطن أقل ميلاً لأن تكون سندًا حصريًا لأطروحة واحدة.
النتيجة العملية هي فتح هامش تفاوضي أكبر للطرفين، ولكن مع برَكة شرعية دولية تُلزم الالتزام بمسارات واضحة (مفاوضات مباشرة، آليات استفتاء أو استشارة) بدل حلول خارجية مفروضة.
● تصريحات بولس بين الواقع والقراءة الجزائرية
الإعلامي والأكاديمي حكيم بوغرارة رأى أن تصريحات مسعد بولس الأخيرة “أسقطت الأوهام المغربية” وأعادت تفسير القرار الأممي في سياقه الصحيح، إذ أكّدت أن التمديد للمينورسو هو اعتراف دولي باستمرار صلاحية الاستفتاء كآلية لتقرير المصير.
وأضاف بوغرارة” للجزائر الآن ” أن، بولس عبّر عن احترام كبير للجزائر ورئيسها، مشيرًا إلى أن هذا الخطاب الأميركي المتوازن يعكس إدراكًا متزايدًا في واشنطن بدور الجزائر كفاعل استراتيجي يتمتع بـ “حكمة ورصانة دبلوماسية”، قادرة على إعادة ضبط التوازنات في شمال إفريقيا.
● الضغط الدبلوماسي الجزائري كعامل مؤثر وموازن
ظهرت الجزائر في هذه الجولة كقوة مضبوطة تقود ردة فعل قانونية ودبلوماسية محكمة أكثر منها تصعيدية.
ثبات الربط بين دعم حق تقرير المصير والالتزام بالشرعية الدولية أجبر عددًا من الدول على إعادة النظر في مواقفها أو تبنّي تعديلات تصحيحية في نصوص القرار.
هذا الأداء الدبلوماسي لا يقتصر على خطاب رمزي؛ بل يعكس هندسة دقيقة للنفوذ الإقليمي، حيث أعادت الجزائر تجميع دعم دولي حول مبادئ واضحة، ما يحدّ من قدرة الأطروحات الأحادية على تحويل القضية إلى أمر واقع سياسي.
● القرار الأممي يعيد تحديد الأطراف ويكرّس الطابع القانوني للقضية
من أبرز التحولات التي أشار إليها عطاف أنّ القرار الأخير حدّد أطراف النزاع بوضوح في المغرب وجبهة البوليساريو، منهيًا بذلك محاولات الرباط تصوير القضية كخلاف جزائري–مغربي.
كما جدّد القرار الأممي التأكيد على حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره وفقًا لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة اللائحة رقم 15/14 الخاصة بتصفية الاستعمار.
ويرى عطاف أن هذا التطور أعاد الاعتبار الكامل لـ “المسار الأممي”، بعد سنوات من محاولات المغرب نقل النقاش إلى أطر ثنائية أو إقليمية ضيقة تخدم أطروحته السياسية.
● آفاق التسوية والرهان على استدامة الحل
في ضوء هذا التحول، يبرز رهانان مترابطان: الأول أن يُترجم القرار الأممي إلى آليات واضحة لتنظيم الاستفتاء أو أي صيغة استشارية تحدد مصير الإقليم، والثاني أن تتجنب الأطراف العودة إلى منطق الصفقة الأحادية أو الحلول الجزئية التي تُبقي النزاع مفتوحًا.
إن نجحت الأمم المتحدة بحسب المتابعين ،في فرض إطار زمني وآليات تنفيذية شفافة، فثمة فرصة حقيقية لحل سياسي عادل ودائم.
أما الفشل في ذلك، فسيجعل أي إنجاز نصي عرضة للالتفاف، ويعيد الأزمة إلى مربعها الأول.
● نحو تسوية تستعيد روح الاستفتاء الأممي
إنّ مجمل التطورات الأخيرة، من تصريحات بولس إلى موقف عطاف، تؤكد أن الملف الصحراوي دخل مرحلة جديدة من إعادة التوازن.
فالمغرب، الذي كان يعوّل على اعتراف أمريكي مطلق بالحكم الذاتي، يواجه اليوم قرارًا أمميًا يُعيد الاعتبار لمبدأ تقرير المصير كجوهر للحل.
وبين ثبات الجزائر على مبادئها ودخول واشنطن في مقاربة أكثر حيادًا، تبدو الشرعية الدولية هي الرابح الأكبر، فيما يُعاد تموضع الملف داخل أروقة الأمم المتحدة بعيدًا عن التأويلات السياسية الضيقة.
و كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي:
“العدالة المتأخرة هي عدالة منقوصة، لكنها تبقى الطريق الأوحد نحو السلام.”
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة