آخر الأخبار

مقال رأي | عندما يصبح البرلمان الفرنسي مسرحاً للمزايدات

شارك
بواسطة محمد قادري
صحفي جزائري مختص في الشأن السياسي الوطني و الدولي .
مصدر الصورة
الكاتب: محمد قادري

● مقال رأي | عندما يصبح البرلمان الفرنسي مسرحاً للمزايدات

الجزائر الآن _ بفارق صوت واحد فقط، 185 مقابل 184، نجح اليمين المتطرف الفرنسي في تمرير مقترح يدعو إلى إلغاء اتفاقيات 1968 مع الجزائر.

صوت واحد كان كافياً لتحويل الجمعية الوطنية الفرنسية إلى مسرح للمزايدات السياسية، في مشهد يكشف أكثر عن أزمة السياسة الفرنسية من أزمة الهجرة المزعومة.

عاصفة في فنجان.. بلا فنجان

لنكن واضحين منذ البداية، هذا التصويت ليس له أي قيمة قانونية ملزمة.

إنه مجرد “قرار رأي” لا يجبر الحكومة الفرنسية على فعل أي شيء. بعبارة أخرى، إنه مجرد بيان سياسي، أو بالأحرى مجرد “شو إعلامي” ينفّذه اليمين المتطرف لكسب بضع نقاط في استطلاعات الرأي .

لكن الطريف في الأمر أن العديد من المحامين والخبراء القانونيين الفرنسيين أنفسهم أكدوا منذ بداية الأزمة الدبلوماسية مع الجزائر أن اتفاقيات 1968 قد أُفرغت من محتواها تدريجياً عبر تعديلات قانونية متتالية.

بل إن بعض المراقبين ذهبوا إلى حد القول إن إلغاء هذه الاتفاقيات قد يمنح بعض المرشحين الجزائريين للهجرة امتيازات من النظام العام للهجرة لم يكونوا يستفيدون منها سابقاً !

فعن أي شيء يتحدثون إذن؟ الجواب بسيط: عن الانتخابات القادمة، لا أكثر ولا أقل .

التحالف المشبوه

ما يلفت الانتباه في هذا التصويت ليس نتيجته بقدر ما هو التحالف الذي أدى إليه. حزب التجمع الوطني لمارين لوبان، والجمهوريون، وحزب “آفاق” لإدوارد فيليب (رئيس الوزراء الأسبق)، تحالفوا جميعاً لتمرير هذا المقترح .

مصدر الصورة

من الواضح أن اليمين الفرنسي، بكل أطيافه، قرر أن الطريق إلى قلوب الناخبين يمر عبر الجزائر. فعندما تفشل في معالجة البطالة، وأزمة السكن، وتدهور الخدمات الصحية، ماذا تفعل؟ بالطبع، تلوّح بفزّاعة “المهاجرين الجزائريين” وتصنع عدواً وهمياً .

لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو غياب نواب حزب الرئيس إيمانويل ماكرون عن التصويت.

هذا الغياب “الاستراتيجي” يطرح أسئلة كثيرة: هل هو موقف سياسي مقصود؟ هل هو انتقام من ماكرون بعد القطيعة مع كوادر حزبه وفي مقدمتهم غابريال أتال؟ أم أنه مجرد لامبالاة؟

في جميع الأحوال، هذا الغياب كان العامل الحاسم في تمرير المقترح، وهو ما يجعل الأمر أكثر غرابة وإثارة للريبة .

الجزائر ساحة الانتصارات الفرنسية الوهمية

ليست هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها الطبقة السياسية الفرنسية الجزائر كساحة لتحقيق انتصارات وهمية تداوي بها جراحها الداخلية. كلما ضاقت الخيارات وتعقدت المشاكل، يتم إخراج “الورقة الجزائرية” من الدرج، ويبدأ الحديث عن “الامتيازات” و”الهجرة غير الشرعية” و”التهديدات الأمنية “.

فعندما تعجز عن حل أزمة السترات الصفراء، أو إصلاح نظام التقاعد، أو إيقاف تآكل القوة الشرائية، يصبح من الأسهل بكثير أن “تنتصر” على الجزائر في قاعة برلمانية، بتصويت رمزي لا قيمة له. إنها آلية نفسية معروفة لدى السياسيين الفاشلين، فعندما لا تستطيع تحقيق انتصارات حقيقية لشعبك، اصنع انتصارات وهمية ضد “عدو” خارجي .

لكن الحقيقة التي يتجاهلها هؤلاء السياسيون هي أن الجالية الجزائرية في فرنسا ساهمت، ولا تزال تساهم، في بناء الاقتصاد الفرنسي. جيل بعد جيل، عمل الجزائريون في المصانع، والمناجم، وقطاع البناء، ودفعوا الضرائب، وبنوا جزءاً كبيراً من البنية التحتية الفرنسية .

هذه الجالية ليست “عبئاً” كما يحاول اليمين المتطرف تصويرها، بل هي جسر حضاري وإنساني بين البلدين. لكن عندما تصبح السياسة مجرد لعبة أرقام واستطلاعات رأي، تضيع الحقائق وسط الضجيج .

لماذا الآن؟

التوقيت ليس عشوائياً. في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة الفرنسية إعادة الدفء إلى العلاقات مع الجزائر، عبر تصريحات تهدئة أطلقها وزير الداخلية الجديد لوران نونيز، الذي أكد أن التعاون الأمني مع الجزائر “حيوي”، وانتقد نهج سلفه برونو روتايو، يأتي هذا التصويت ليضرب كل تلك الجهود عرض الحائط .

هنا يظهر التناقض الصارخ في السياسة الفرنسية، حكومة تحاول بناء الجسور، وبرلمان يعمل على هدمها.

الحكومة تتحدث عن “التعاون الحيوي”، واليمين المتطرف يصوّت يسعى لقطع العلاقات.

من يمثل فرنسا إذن؟ ومع من يفترض بالجزائر أن تتعامل؟

مصدر الصورة

المفارقة الكبرى

المفارقة الأكبر في هذه القصة هي أن إلغاء اتفاقيات 1968 قد يأتي بنتيجة عكسية تماماً لما يريده اليمين المتطرف.

كما أشار بعض الخبراء، قد يؤدي هذا الإلغاء إلى خضوع الجزائريين للنظام العام للهجرة في الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يمنحهم حقوقاً وتسهيلات لم يكونوا يستفيدون منها في ظل الاتفاقيات الحالية !

بعبارة أخرى، اليمين المتطرف قد يكون على وشك إطلاق النار على قدمه. لكن من قال إن المنطق أو الحقائق القانونية تهم في زمن الشعبوية والمزايدات الانتخابية؟

ماذا بعد؟

السؤال الآن: كيف يجب أن ترد الجزائر على هذه الخطوة؟

الجواب ببساطة: بالحكمة والهدوء، وعدم الانجرار إلى اللعبة التي يريدها اليمين المتطرف. فهذا التصويت، كما ذكرنا، ليس له قيمة قانونية ملزمة.

إنه مجرد محاولة لاستفزاز رد فعل جزائري انفعالي يمكن استثماره سياسياً في فرنسا .

الجزائر يجب أن تواصل الدفاع عن حقوق جاليتها، وأن تطور علاقاتها الدولية بشكل متوازن، وأن تنوّع شراكاتها بعيداً عن الاعتماد الكلي على أي طرف واحد.

في نفس الوقت، عليها أن تحافظ على قنوات الحوار مع القوى الديمقراطية والعقلانية في فرنسا، وأن تميّز بين الحكومة الفرنسية التي أبدت بعض اللين من خلالها حديثها عن عودة التعاون بين البلدين، واليمين المتطرف الذي يبحث عن المواجهة .

الأكيد، أن ما حدث في الجمعية الوطنية الفرنسية أمس ليس انتصاراً سياسياً، بل هو دليل على إفلاس اليمين المتطرف فكرياً.

عندما لا تملك حلولاً حقيقية لمشاكل بلدك، تلجأ إلى تأليب الناس ضد “الآخر”. هذه هي الوصفة الشعبوية القديمة التي جُرّبت مراراً وتكراراً عبر التاريخ، وأدت دائماً إلى كوارث .

الجزائر لن تكون ساحة لانتصارات فرنسا الوهمية. والجالية الجزائرية في فرنسا ليست ورقة للمساومة. إنها جزء من النسيج الاجتماعي الفرنسي، سواء أعجب ذلك اليمين المتطرف أم لم يعجبه .

أما فرنسا، فعليها أن تختار هل تريد شراكة حقيقية مع الجزائر قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة؟ أم تريد أن تستمر في لعبة المزايدات التي لن تنتج سوى المزيد من التوتر والعداء؟

الكرة الآن في ملعب باريس، ولكن ليس في برلمانها، بل في قصر الإليزي وفي ماتينيون. فالبرلمان، كما اتضح، أصبح مجرد مسرح للعروض السياسية الرخيصة .

ويكفي في النهاية أن نقول: “في السياسة، كما في المسرح، ليست كل العروض تستحق التصفيق”

شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا