قراءة استراتيجية في بيان جامع باريس ورئيس أساقفة الجزائر
حين تتحرك القوى الروحية لتجاوز الجمود السياسي
لا يمكن قراءة البيان المشترك الذي صدر عن عميد جامع باريس الكبير شمس الدين حفيظ، ورئيس أساقفة الجزائر الكاردينال جان بول فيسكو، بمعزل عن السياق السياسي المتأزم للعلاقات الجزائرية–الفرنسية والتي تسبب فيها بشكل واضح وجلي قادة اليمين المتطرف الفرنسي وعلى رأسهم وزير الداخلية روتايو
فقد اختار الطرفان صحيفة لوموند الفرنسية كمنبر لإطلاق نداء يضع الأصبع على جوهر الأزمة: انسداد سياسي مزمن، تحول إلى عبء ثقيل على الحكومتين، ويهدد بجرّ الشعبين إلى مناخ دائم من التوتر وفقدان الثقة.
القوة الناعمة كبديل للجمود السياسي
البيان يعكس إدراكاً متنامياً بأن السياسة الرسمية وصلت لحد الآن إلى طريق مسدود، وأن تجاوزها سيكون صعبا جدا عبر المفاوضات الدبلوماسية التقليدية وحدها، بل عبر قنوات بديلة تستثمر في القوة الناعمة: الدين، الثقافة، والذاكرة المشتركة.
فالجالية الجزائرية في فرنسا، كما أشار البيان، تمثل نموذجاً حياً لقدرة الهوية المزدوجة على التحول إلى مصدر ثراء حضاري، لا إلى عنصر توتر.
هذه الجالية – الممتدة عميقاً في النسيج الفرنسي – تشكل في الواقع جسراً بشرياً وثقافياً لا تستطيع السياسة الرسمية تجاوزه أو تجاهله.
رسالة مزدوجة إلى باريس والجزائر
إن اختيار توقيت البيان ونشره في وسيلة إعلامية فرنسية ذات ثقل يرسل رسالة مزدوجة:
إلى الجزائر: بأن أصوات الاعتدال والاعتراف موجودة داخل فرنسا، وتسعى لإعادة بناء جسور الثقة ،وأن باريس ليست حكرا على قادة اليمين المتطرف ومخططاتهم.
إلى باريس: بأن التعامل مع الجزائر لا يمكن أن يظل محكوماً بالاستعلاء أو إرث الوصاية، بل لا بد من الاعتراف بها كشريك استراتيجي وندّ في المتوسط وإفريقيا.
وهنا يلتقي البعد الروحي بالبعد السياسي: فبينما تخسر فرنسا تدريجياً مواقع نفوذها التقليدية في إفريقيا، تبرز الجزائر كقوة إقليمية صاعدة في المتوسط والساحل، ما يجعل أي علاقة متوازنة بين البلدين رهينة بإعادة تعريف القواعد من جديد.
{“pictureId”:”6E3D8E95-B5DA-4F46-BE3B-2C521AE784A4″,”exportType”:”image_export”,”tiktok_developers_3p_anchor_params”:”{“picture_template_id”:””,”source_type”:”vicut”,”capability_name”:”retouch_edit_tool”,”client_key”:”aw889s25wozf8s7e”}”,”source_type”:”vicut”,”data”:{},”editType”:”image_edit”}
النائب عبد القادر بريش: صوت ثالث في قلب الأزمة
النائب البرلماني البروفيسورعبد القادر بريش التقط هذه الإشارات بوضوح، حين وصف البيان في اتصال مع صحيفة “الجزائر الآن” الالكترونية، بأنه “لحظة فارقة في زمن التوتر”. بالنسبة له، تمثل هذه المبادرة صوتاً ثالثاً يتجاوز الحسابات الضيقة للسياسيين، ويفتح مجالاً لخيال استراتيجي جديد يضع الشعوب في قلب العلاقات الثنائية.
بريش اعتبر أن التقارب الروحي بين الإسلام والمسيحية، في نص واحد، يحمل قيمة رمزية عميقة: فهو يبرهن أن الأديان، عندما تتحرر من التوظيف السياسي الضيق، تتحول إلى قوة جامعة لا مفرقة. ومن هذا المنطلق، يمكن أن يكون للبعد الروحي دور محوري في إعادة ترميم الثقة المهدورة بين الجزائر وفرنسا.
من الذاكرة إلى المستقبل
أحد أهم محاور البيان هو التأكيد على ضرورة التعامل مع الذاكرة الاستعمارية بصدق ونزاهة.
فالذاكرة التاريخية، إذا أُديرت بعدل، تتحول من عبء إلى أداة للحوار والتفاهم. وهذا يفتح أفقاً جديداً أمام صياغة “ذاكرة مشتركة” بين الجزائر وفرنسا، قائمة على الاعتراف المتبادل لا على الإنكار أو التزييف.
قراءة استراتيجية في بيان جامع باريس ورئيس أساقفة الجزائر
لكن البيان لا يتوقف عند الماضي، بل يرسم أفق المستقبل من خلال ثلاثة مرتكزات أساسية حدّدها بريش بدقة:
1. الاحترام المتبادل: شرط لأي شراكة مستدامة.
2. إدارة الذاكرة بإنصاف: لتفكيك عقدة الاستعمار.
3. التطلع المشترك إلى المستقبل: حيث المصالح المشتركة تتجاوز الحسابات الآنية.
نحو إعادة تعريف العلاقة الجزائرية–الفرنسية
بهذا المعنى، لا يشكل البيان مجرد نداء روحي أو ثقافي، بل هو محاولة لوضع مسار استراتيجي جديد للعلاقات الجزائرية–الفرنسية. مسار يقوم على الاعتراف بالندية، وتوظيف القوة الناعمة كأداة لكسر الجمود السياسي.
وإذا ما وجدت هذه المبادرة صدى لدى صانعي القرار في باريس والجزائر، فقد تسجَّل كلحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين البلدين، لحظة تُعيد تعريفها على أسس أكثر توازناً واستقراراً، بعيداً عن إرث الاستعمار وممارسات الاستعلاء.
لقد كتب هنري كيسنجر يوماً أن “السلام الدائم لا يتحقق إلا عندما يجد الطرفان مصلحة مشتركة في استمراره”.
وهذا بالضبط ما يحاول البيان المشترك ترسيخه: جعل من الذاكرة والروحانيات رافعةً سياسية، ومن الحوار الثقافي قاعدةً استراتيجية، حتى لا تبقى العلاقة بين الجزائر وفرنسا أسيرة الماضي، بل جسراً نحو مستقبل أكثر توازناً وإنصافاً