في تحقيق صادم نشره موقع Mediapart الفرنسي، كشفت الصحفية والوثائقية من أصول جزائرية صافية كساس، بمعية المؤرخ الفرنسي فابريس ريسبوتي، عن مجزرة التي تعد إحدى أبشع الجرائم الاستعمارية التي حاولت فرنسا طمسها طويلًا. وتعود الجريمة الى ليلة 23 ماي 1956 حين اقتحمت قوات الاحتلال الفرنسي ثلاثة قرى صغيرة في منطقة القبائل لتزرع الموت والرعب في بيوت آمنة. وفي ساعات قليلة فقط، ارتكب الجنود مجزرة وحشية ذهب ضحيتها ما لا يقل عن 75 مدنيًا أغلبهم من الشيوخ والنساء والأطفال، فيما ترك الناجون في حالة صدمة وذهول عميق.
ظلت القصة مطموسة في الذاكرة الشعبية لاهالي المنطقة، يتداولونها بينهم في مجالسهم بمرارة كبيرة. لكن كساس، التي بدأت عام 2021 بحثًا شخصيًا في تاريخ عائلتها المهاجرة إلى بلجيكا، اصطدمت بذكرى مأساوية دفنها والدها قبل وفاته. هذا الخيط العائلي تحول إلى مشروع بحثي شاركها فيه المؤرخ ريسبوتي، ليكشفا معًا عبر وثائق وشهادات أولية تفاصيل الهجوم الدموي الذي مثل وجهًا آخر من وجوه سياسة الأرض المحروقة التي مارسها الاستعمار الفرنسي الغاشم في الجزائر.
وكانت المجزرة، جزءًا من استراتيجية منظمة استهدفت كسر إرادة الشعب الجزائري وترويعه لقطع كل دعم عن الثورة التحريرية التي كانت قد اندلعت في نوفمبر 1954. ففرنسا الاستعمارية لم تتردد في تحويل قرى بكاملها إلى مقابر مفتوحة، ولم تكن تعرف رحمة في سفك دماء الجزائريين الأحرار بمنتهى البشاعة والهمجية، غير أن الحقيقة اليوم تتعرى، ولازال التاريخ يفضح جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر والإبادات الممنهجة ضد شعب أعزل طالب بحقه المشروع في الحرية.
ويعيد هذا التحقيق إلى الواجهة مسؤولية الدولة الفرنسية التي ما زالت عاجزة حتى اليوم عن مواجهة ماضيها الدموي في الجزائر. وبينما يحاول البعض في باريس تزيين صورة الحقبة الاستعمارية، تأتي مثل هذه الشهادات لتفضح النفاق والهمجية والدموية الفرنسية وتؤكد أن الذاكرة الجزائرية لن تنطفئ، وأن دماء الشهداء ستظل حاضرة في وجدان الأجيال.
وهكذا كانت منطقة القبائل، التي أنجبت أبطالًا ومجاهدين، مثل باقي جهات الوطن، قد دفعت يومها ثمنًا غاليًا من أرواح أبنائها، لكنها قدمت للعالم برهانًا جديدًا على أن الاستعمار لا يمكن أن ينتصر مهما كانت آلته العسكرية. ومثلما قال أحد أحفاد الضحايا في شهادته: “لقد حاولوا قتلنا جميعًا، لكننا اليوم هنا لنروي قصتهم”.