_ مقال رأي
الجزائر الآن _ في مشهد غريب ومقلق، تحول عدد من رؤساء المؤسسات الاقتصادية العمومية الذين يملكون أو يمولون النوادي الرياضية في الجزائر إلى رهائن لضغوط جماهيرية متصاعدة، تُغذيها صفقات مشبوهة وتضخيم إعلامي لانتدابات لاعبين ومدربين، على حساب أدوارهم الأساسية كمسيرين لشركات وطنية يفترض أن تكون قاطرة في التنمية والتوظيف والابتكار.
ما يحدث مع أسماء مثل حشيشي، عمارة، بوخزاني، عجال .. وغيرهم، ليس سوى نموذج صارخ لهذا الانزياح الخطير عن الوظيفة الاقتصادية الأساسية للمؤسسات، إلى دوامة صراعات كروية تتخللها شبهات ابتزاز، ومزايدات، بل وحتى تحريض جماهيري مباشر ضد مسؤولي الدولة.
يكفي أن تُفشل إدارة مؤسسة صفقة لاعب لا تتحمّل ميزانية الشركة الرياضية للنادي تكاليفه، حتى تنهال عليها حملات التخوين والتشهير، وكأنها أخلّت بأمن قومي، لا بموازنة نادٍ مفلس!
الأخطر من كل ذلك، أن بعض المسؤولين عن تسيير هذه الشركات الرياضية أصبحوا أنفسهم أدوات في هذا التحريض، يوجهون الرأي العام ضد مديريهم العامين، بطريقة خبيثة وممنهجة، يوهمون بها الجماهير أن الدولة ترفض تمويل الأندية، والحقيقة أن الدولة تُطالب بالمسؤولية، لا أكثر.
معظم هذه الأندية تعاني من الإفلاس، ولا تملك أي نموذج اقتصادي مستدام، لكنها في المقابل تطالب بصفقات لاعبين بالملايير.
إنها مفارقة مَرَضية، تُعمّق الفوضى وتُنتج بيئة طاردة للاستثمار الرياضي الحقيقي.
■ إعلام يبحث عن التصفيق لا الحقيقة
ما يزيد الطين بلّة، هو أن عددًا من المحللين والإعلاميين الذين يُفترض أن يؤدوا دورهم في التوعية وكشف الحقائق، انخرطوا بدورهم في هذه المسرحية الفوضوية. بدل أن يُصارحوا الجماهير بواقع الأندية المفلسة، وغياب الشفافية، وعبثية الصفقات، تجدهم في البلاطوهات التلفزيونية يؤدون دور “المناضل الكروي”، ويطالبون بتمويل عمومي مفتوح وكأنه حق مقدس، دون أن يطرحوا سؤالًا واحدًا عن مصادر التمويل، أو مآلات هذه النفقات.
هؤلاء لا يمارسون الصحافة، بل يمارسون الشعبوية الرياضية، يُصفّقون للانتدابات دون أن يسألوا عن ميزانية النادي، يهاجمون المسؤولين الرافضين للتمويل غير القانوني، ويقدّمون صورة مغلوطة للرأي العام، تقوم على العاطفة لا الوقائع.
إن الصحفي أو المحلل الرياضي ليس مطالبًا بأن يُرضي الجماهير، بل بأن يفتح عيونها على الحقيقة، ولو كانت مُرّة. أن يقول: “ناديكم مفلس، ويجب أن يُحاسَب قبل أن يُدعَم”. لكن بدل ذلك، تحوّل الإعلام إلى جزء من المشكلة، يُغذّي الابتزاز الجماهيري بدل أن يوقفه.
■ حين تكون الأندية رافعة اقتصادية لا عبئًا على الدولة
لنتأمل فقط في تجارب بعض الأندية العربية والعالمية التي تحوّلت إلى مؤسسات قائمة على استراتيجيات استثمار وتسيير فعلي: الأهلي المصري و الترجي الرياضي التونسي وطبعا أحسن مثال حالي وأقواه ،ريال مدريد الاسباني
.
في الجزائر، للأسف، ما تزال الأندية في منطق الابتزاز لا الاستثمار، حيث يتم تدمير صورة مسؤولي مؤسسات وطنية لأنهم رفضوا تمويل صفقة خيالية أو مشبوهة، أو فضلوا توجيه الموارد نحو بناء المرافق و التكوين بدل إرضاء جمهور غاضب.
من جانبها، أظهرت الاتحادية الجزائرية لكرة القدم شجاعة نادرة، عندما أصدرت بيانًا واضحًا يقضي بعدم تجاوز سقف 50 مليار سنتيم كأجور سنوية للاعبين.
هذا القرار، رغم صعوبته، يمثل خطوة أولى نحو تقنين الفوضى التي حولت الكرة الجزائرية إلى سوق سوداء للمال العام.
الرياضة الجزائرية اليوم لا تحتاج إلى مزيد من المال، بل إلى مزيد من الحكمة.
إلى فصل حازم بين تسيير الأندية وتسيير المؤسسات الاقتصادية الوطنية.
وإلى تحرير النوادي من منطق “الكاشير الانتخابي” الذي يُقدَّم للجماهير كل موسم على حساب مصلحة الدولة.
لقد آن الأوان لإعادة تعريف العلاقة بين المال العام والرياضة، وبين الشركات الوطنية والجماهير.
آن الأوان أن نفهم أن بناء فريق كرة قدم لا يجب أن يكون على حساب تدمير مؤسسة اقتصادية.
الفرق بين نادٍ محترف وآخر مفلس، ليس في عدد النجوم، بل في من يدفع الفاتورة.