عمود يومي | الآن فقط
الجزائر الآن _ في زوايا الخرائط التي نظنها بريئة، تختبئ أحيانًا أكبر الأكاذيب. وبرنامج « كوبرنيكوس» الأوروبي للأرصاد الجوية ليس منظمة حقوقية ولا مكتبًا سياسيًا، بل مجرد عين علمية تقول للناس: « هذه هي الأرض، هذه هي الحدود، هذه هي الرياح، وهذه هي الأمطار». لا أكثر ولا أقل.
لكن حتى هذه العين العلمية، عندما تُحمّل فوق طاقتها، تقع في فخ التجميل.
رسمت الصحراء الغربية كجزء من المغرب، وكأن الأمر محسوم بمسطرة هندسية لا تعرف الالتباس ولا التاريخ.
لم تكن تلك الخريطة هي المشكلة في ذاتها — بل كانت انعكاسًا لعادةٍ عربية قديمة: أن نعيد رسم الواقع ليتوافق مع ما نحب أن نسمعه. غير أن الخطأ في العلم لا يرحمه أحد.
صحيفة إسبانية واحدة — « الانديبانديانتي» — قالت كفى. فضحت الخطأ، فتدارك القائمون على «كوبرنيكوس» الأمر، وأضافوا الخط المتقطع. خط صغير، لكنه يعيد التوازن إلى الحكاية الكبيرة: أن الخرائط لا تصنع الشرعية بل تكشفها.
■ الزاوية القانونية: خرائط لا تُنكر القانون
ما فعله «كوبرنيكوس» ليس شأناً بصرياً فحسب، بل هو تصحيح قانوني في جوهره. لأن كل خريطة اليوم هي تصويت رمزي غير معلن على من يملك ماذا، ومن له السيادة على ماذا.
والحق أن القانون الدولي — رغم ما يعانيه من شلل سياسي — لا يزال واضحًا في مسألة الصحراء الغربية.
محكمة العدل الأوروبية أكدت في عدة أحكام أن اتفاقيات الشراكة والتجارة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب لا يمكن أن تشمل الصحراء الغربية، ما لم يوافق شعب الإقليم صراحة، لأن الإقليم يتمتع بوضع قانوني متميز.
بل إن المحكمة ذهبت إلى أن وجود المغرب هناك لا يشرعن ملكيته بل يُعد قوة “إدارة أمر واقع” (de facto).
والأمم المتحدة، رغم ضغوط سياسية هائلة، لا تزال تُصنّف الصحراء الغربية كـ«إقليم غير متمتع بالحكم الذاتي»، وتؤكد على حق تقرير المصير لشعبه، باعتباره مسألة تصفية استعمار غير مكتملة.
فكيف تتجاهل خريطة طقس، كل هذه المرجعيات القانونية؟
■ الزاوية السياسية: خرائط تُرسم بالدولارات
منذ توقيع اتفاق التطبيع الثلاثي أواخر 2020 بين المغرب وإسرائيل برعاية أمريكية، بدأ الربط علنًا بين “المغرب و الصحراء الغربية” والمكاسب الجيوسياسية. مقابل فتح الرباط لسفارتها أمام تل أبيب.
إسرائيل بدورها اعترفت لاحقًا، وبدأت بوضع خريطة تضم الصحراء الغربية المحتلة تحت السيادة المغربية المزعومة، بل وتم الإعلان عن مشاريع استثمارية هناك.
فرنسا، من جهتها تستفيد من عقود اقتصادية واستثمارات في الفوسفاط والسياحة داخل الإقليم المحتل.
النتيجة أن المغرب لا يُقاتل فقط عبر مؤسسات، بل عبر لوبيات ضغط ونفوذ اقتصادي داخل أوروبا نفسها، لضمان تمرير تمثيلات جغرافية تُطبع الأمر الواقع وتمنح «ختم السيادة» عبر برامج علمية أو نشرات اقتصادية.
■ الإعلام الجغرافي: كيف تصبح الخريطة سلاحًا؟
ليس جديدًا أن الخرائط تُستخدم أداةً سياسية. لكن ما نعيشه اليوم هو تطور خطير لما يُعرف بـ “ الجيوغرافيا الدعائية“: حيث تتحول نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، وبرامج الأرصاد، وخرائط غوغل، وحتى واجهات شركات الطيران، إلى أدوات لتكريس روايات سياسية.
المخزن المغربي تفوّق في هذا المجال، مستغلًا التراخي الأوروبي، وضعف الاهتمام الإعلامي بهذه التفاصيل.
عشرات الخرائط تنشر يوميًا في وسائل إعلام ومؤسسات علمية ووكالات سفر، تضع الصحراء الغربية ضمن المملكة المغربية بدون أي ملاحظة قانونية.
وهنا يكمن خطر الصمت: أن تمرَّ الخريطة المضللة كأمر واقع، دون مقاومة.
ولهذا كان خط كوبرنيكوس المتقطع لحظة تصحيح نادرة، ومربكة لمن اعتاد التسويق السياسي تحت غطاء مؤسسات علمية.
الرسالة الأخيرة: لا أحد يهزم الحقيقة مهما طالت الحرب
إلى القارئ المغربي قبل غيره أقول: لستَ أنت المستهدف بهذا الخط، ولا كرامتك في موضع اختبار.
الحقيقة أن كرامة أي دولة لا تُبنى بفرض خريطة لا يعترف بها القانون الدولي، بل بقبول القانون كما هو، ثم المضي في تفاوض عادل يضمن للشعبين — شمال الخط وجنوبه — أن يعيشا في استقرار يستحقانه.
من قال إن الانتماء يُثبت بمحو الحدود؟ أحيانًا الحدود تفصل بين ظلم وعدل، بين احتواء مشروع واتفاق حر.
في النهاية، بعض الناس يظنون أن المعارك الكبرى تُحسم بالدبابات فقط.
في الحقيقة تُحسم أحيانًا بخط متقطع رسمه موظف صادق في مكتب أوروبي، ليذكّرنا أن القانون قد يتعثر لكنه لا يموت.