الجزائرالٱن _ بعد أكثر من ثلاث سنوات على واحدة من أعقد الأزمات الدبلوماسية التي هزّت الضفة الغربية للمتوسط، بدأت بوادر عودة الدفء إلى العلاقات الجزائرية الإسبانية تتأكد بخطوات محسوبة، أعادت التذكير بثقل هذه العلاقة الاستراتيجية التي لا تحتمل الفراغات أو القطيعة الدائمة، بالنظر إلى تشابك ملفاتها وحساسيتها إقليميًا ودوليًا.
■ جذور الأزمة: انكسار الثقة بسبب الصحراء الغربية
لعلّ أحد أهم أسباب فداحة الأزمة بين الجزائر ومدريد في مارس 2022 هو أنها مسّت قضية تُعدّ من صميم الثوابت الوطنية الجزائرية، وهي مسألة حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، والتي ظلت الجزائر تعتبرها قضية تصفية استعمار غير قابلة للمساومة.
حينها، قررت حكومة بيدرو سانتشيز فجأة تحويل الموقف الإسباني التاريخي –الذي ظل منحازًا لمبدأ الحل الأممي عبر استفتاء– إلى موقف داعم رسميًا لخطة الحكم الذاتي المزعومة التي يقترحها المغرب، من دون العودة إلى البرلمان الإسباني أو إشراك القوى السياسية الفاعلة. في الجزائر، اعتُبر القرار طعنة في الظهر، ليس فقط لدعم البوليساريو، بل أيضًا للعلاقات الثنائية المبنية على الثقة والتنسيق في ملفات حيوية، أهمها الغاز والأمن والهجرة.
وقد جاء الرد الجزائري حازمًا حينها: سحب السفير، تجميد معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون، وتعليق جزئي للعلاقات التجارية، مع مواصلة تصدير الغاز ولكن بشروط واضحة تؤكد أن الجزائر تحتفظ بموقعها كلاعب أساسي يُملي شروطه من منطلق السيادة.
■ تحركات حذرة نحو إذابة الجليد
ورغم حدة الأزمة، فإن كلا الطرفين ظلّ حذرًا في إدارة التباعد، إدراكًا لأهمية تجنب القطيعة الكاملة. فقد ظلت خطوط التواصل مفتوحة ولو بشكل غير معلن، خاصة في الملفات الأمنية والهجرة والطاقة.
وشكّلت زيارة وزير الداخلية إبراهيم مراد إلى مدريد مطلع السنة الحالية أول إشارة علنية إلى رغبة متبادلة في إعادة ربط الخيوط الدبلوماسية. تلتها لقاءات جانبية لوزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف بنظيره الإسباني ألباريس، آخرها على هامش اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في جوهانسبورغ، وهي لقاءات قدّمت رسائل مباشرة بأن الجزائر ليست في وارد قطع الطريق أمام أي انفراج محسوب، إذا توفرت ضمانات لاحترام مبادئها.
أما أحدث مؤشر على هذا الانفتاح المدروس فكان في إشادة ملك إسبانيا فيليبي السادس بالعلاقات مع الجزائر عبر رسالة تقدير نقلها للوزير الأول نذير العرباوي، خلال استقباله الوفود المشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة الرابع لتمويل التنمية بإشبيلية. هنا، بدا واضحًا أن المؤسسة الملكية الإسبانية تحرص على ترميم الثقة مع الجزائر بصفتها شريكًا محوريًا للمدريد، حتى لو اختلفت توجهات الحكومات المتعاقبة.
■ شراكة محورية رهينة التوازنات
يعود عمق الرهان على هذه العلاقة إلى الوزن الثقيل الذي يمثّله التعاون الجزائري الإسباني في ملفات حيوية:
1ـ الطاقة: إسبانيا هي إحدى الوجهات الرئيسية للغاز الجزائري، عبر أنابيب استراتيجية على رأسها أنبوب «ميدغاز» الذي يربط بني صاف ببدرقة ألميرية. وخلال أزمة الطاقة التي ضربت أوروبا عقب الحرب في أوكرانيا، أصبحت الجزائر مزودًا لا غنى عنه لإسبانيا لتعويض النقص في الغاز الروسي. من هنا، تدرك مدريد أن أي توتر مع الجزائر يُمكن أن يكون له ثمن باهظ.
2 ـ الأمن والهجرة: تشكّل الجزائر بوابة أمنية حيوية للمتوسط وجنوب أوروبا، خاصة في ملف مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية. وقد ظل التعاون الأمني قائمًا حتى في ذروة الأزمة، ما يؤكد واقعية الطرفين في الفصل بين الخلافات السياسية ومقتضيات الأمن القومي.
3 ـ الاستثمارات والمبادلات التجارية: قبل الأزمة، كانت إسبانيا من أبرز شركاء الجزائر التجاريين في أوروبا إلى جانب إيطاليا وفرنسا. وقد عرقل الفتور الدبلوماسي العديد من المشاريع والشراكات، ما دفع دوائر الأعمال الإسبانية إلى الضغط بهدوء على حكومة سانشيز لإعادة تصويب البوصلة نحو الجزائر.
■ العودة بشروط: الجزائر لا تنسى
لكن رغم أجواء الانفراج التدريجي، فإن الجزائر لم تُغلق بعد ملف الأزمة. فهي ما زالت تنتظر خطوات عملية من مدريد تؤكد عودة التزامها بمبدأ الشرعية الدولية في قضية الصحراء الغربية، أو على الأقل احترام موقف الجزائر ومراعاة حساسيتها حيال أي اصطفاف يهدد مصالحها.
من هنا، يُتوقع أن تظل عودة العلاقات محكومة بمعادلة التوازنات الدقيقة: شراكة اقتصادية وأمنية قوية، مقابل احترام الثوابت السياسية الجزائرية في القضايا الإقليمية الحساسة.
■ البُعد الإقليمي: تنافس إسبانيا وإيطاليا
تأتي عودة الحرارة بين الجزائر ومدريد في وقت نجحت فيه إيطاليا بقيادة حكومة جورجيا ميلوني في توسيع نفوذها الطاقوي لدى الجزائر، عبر تعزيز شراكات استراتيجية في الغاز والطاقة المتجددة والبنية التحتية. هذا التنافس بين مدريد وروما يُعتبر أيضًا دافعًا إضافيًا للإسبان للعودة إلى الساحة الجزائرية، خشية خسارة مكانتهم التاريخية لصالح روما.
■ نحو أفق جديد؟
يُجمع المتابعون على أن استعادة الثقة بين الجزائر وإسبانيا ستحتاج إلى وقت وإجراءات ملموسة تُعيد التوازن للملفات العالقة. لكن المؤشرات الراهنة تؤكد أن الطرفين يدركان حجم التحديات الإقليمية والدولية التي تجعلهما أكثر حاجة لبعضهما البعض، وسط أزمات طاقة وجغرافيا سياسية معقدة على ضفتي المتوسط.
وبين رسائل الود الملكية والتحركات الوزارية، يبدو أن الجزائر اختارت أن تبقي يدها ممدودة –ولكن بشروط واضحة– لضمان شراكة تقوم على المصالح المتبادلة والاحترام الكامل لثوابتها. وفي المقابل، تدرك مدريد أن أي محاولة لاستعادة الدفء لا بد أن تمرّ عبر استعادة الثقة السياسية، وتثبيت المصالح الاقتصادية والأمنية التي تجمع البلدين.
في النهاية، لا عودة كاملة من دون إعادة بناء الثقة على أسس متينة، وهذا ما ستكشفه الخطوات المقبلة.