مقال رأي | كل أحد
الجزائر الآن _ كأنك تستفيق فجأة في قلب غابة كثيفة، لا قانون فيها، فقط أنياب ومخالب. الذئب لا يُحاكم حين يفترس الأرنب، بل يُصفَّق له باعتباره “حامي التوازن الطبيعي”. وفي زاوية معتمة، يصيح أحدهم: “لقد انتهى زمن العدالة… نحن في عصر الافتراس”.
ذلك تمامًا ما يعيشه العالم في هذه اللحظة، ونحن نتابع اليوم العاشر من العدوان الإسرائيلي المفتوح على جمهورية إيران الإسلامية، وسط صمت دولي مطبق، وعجز ممنهج لمجلس الأمن عن الانعقاد أو حتى التنديد.
لا جديد في هذا المشهد، ولا ما يدعو للدهشة.
فالشرعية الدولية أصبحت مجرد صفحة من الماضي، واستُبدلت بقانون الغاب: القوي يأكل الضعيف، والذاكرة الإنسانية قصيرة، إن لم نقل مبتورة، وهي تُساق الآن نحو حرب عالمية ثالثة قد لا تُبقي فرصة لرابعة.
■ العدوان الإسرائيلي: حرب متعددة الأوجه
الهجمات الإسرائيلية على إيران ،شملت كل الأهداف ( العسكرية و النووية ، وحتى المدنية ..)،والتي سبق أن تم تحديدها بدقة عبر التكنولوجيا الحديثة و شبكات تجسس وخونة الطابور الخامس.
الهجمات العسكرية توازيها حرب نفسية محكمة، تضليل إعلامي كثيف، وعمليات سيبرانية تنفذها أجهزة إلكترونية مدرَّبة، فيما تعجّ المنصات بتصريحات وتغريدات، توهم المتلقي بأن ما يحدث “جزء من حملة نبيلة ضد الإرهاب”.
غير أن ما يلفت النظر في خضم هذه الفوضى، هو تكرار اسم الجزائر بشكل متصاعد.
أحد أكثر التصريحات سذاجة جاء على لسان شخص يُدعى مائير المصري، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة القدس في فلسطين المحتلة، والذي قال: “ اليوم إيران، وغدًا الجزائر. إسرائيل تحارب الإرهاب“.
وبهذا المنطق المعكوس، يتوعد الجزائر بهجوم إسرائيلي لأنها -وفق زعمه- “ترعى الإرهاب”.
■ من واجه الإرهاب وحده لا يُزايد عليه أحد
لعل هذا الشخص، الذي يتحدث من منبر أكاديمي مُحتل، يجهل أن الجزائر ليست دولة حديثة عهد بالإرهاب، بل ساحة من ساحات النزال الكبرى التي شهدت أسوأ موجات العنف الدموي في تسعينيات القرن الماضي، وتمكنت وحدها، من كسر شوكته وهزيمته.
الجزائر اليوم ، هي الدولة الرائدة في العالم التي وضعت نموذج متكامل لمكافحة الإرهاب، حتى باتت شريكًا أمنيًا أول للولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال، بشهادة كبار قادتها العسكريين. ففي زيارته للجزائر يوم 22 جانفي 2025، وبعد استقباله من طرف الرئيس تبون ، صرّح قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، الجنرال مايكل لانغلي، قائلاً: “الجزائر بلد رائد في المنطقة، وكل الدول الأخرى ستستفيد من هذه الريادة… سويًّا، ستزدهر الجزائر والولايات المتحدة، وستواصلان حماية وسلامة الشعوب”.
وما يدعّم هذا الاعتراف الميداني هو توقيع مذكرة تفاهم عسكرية بين قائد “أفريكوم” والفريق أول السعيد شنقريحة، الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني ، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، والتي وُصفت بأنها تؤسس لعلاقة استراتيجية طويلة الأمد، وتعكس الثقة المتبادلة في المجال الأمني بين البلدين.
الدولة الجزائرية لم تحصل على أمنها كمنحة، بل دفعته من دماء أبنائها، وواجهت الحصار والتآمر والخيانة، من القريب قبل البعيد. وقدّمت للعالم تجربة فريدة في هندسة الاستقرار، لا تزال الأمم المتحدة والدول الإفريقية تستفيد من عناصرها حتى اليوم.
لقد كانت مكافحة الإرهاب أولوية مركزية في الدبلوماسية الجزائرية، وأنا شخصيًا، كصحفي متخصص في الشأن الأمني والسياسي ، التقيتُ خلال مسيرتي المهنية بالكثير من المسؤولين الكبار، أكدوا لي أن الجزائر شرعت منذ التسعينيات في بناء استراتيجية متكاملة ترتكز على التشريع، التنسيق الاستخباراتي، والمتابعة الميدانية، وتكيّفت مع التهديدات الجديدة بنجاعة لافتة.
هذه الاستراتيجية أفضت إلى نتائج ملموسة على الساحة الدولية، أبرزها الدور الريادي في تبني قرار مجلس الأمن رقم 2133 سنة 2014، الذي يحظر دفع الفدى للجماعات الإرهابية، وهو القرار الذي استند إلى “مذكرة الجزائر” المعتمدة سابقًا سنة 2012 في المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب.
كما أدانت الجزائر بشكل متكرر، وعلى أعلى المستويات، سياسة دفع الفديات، والتي اعتبرتها شكلًا من أشكال تمويل الإرهاب، كان آخرها في اجتماع جزائري-مالي في أوت 2021.
الجزائر… ذاكرة مكتوبة بالدم، وعقيدة لا تتغير
ليست الجزائر دولة طارئة على مفاهيم الأمن والسيادة.
تاريخها الوطني كُتب بدماء الشهداء الذين حرروا الأرض بالعقيدة، لا بالتسويات.
عقيدة رسخها الجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير، تُحرِّم حتى مجرد التفكير في التدخل بشؤون الآخرين، وتمنع بشكل قطعي خروج الجندي الجزائري خارج حدوده إلا تحت مظلة الأمم المتحدة.
ومباشرة بعد الاستقلال، وأثناء لملمة جراحها، تلقت الجزائر أول طعنة من جارتها الغربية، المغرب، في هجوم غادر سنة 1963 مدفوع بعقيدة توسعية تستند إلى دستور استعماري، لا يزال يؤسس لعقلية الهيمنة ورفض استقلال الآخرين.
النظام المغربي،”الذي لم يتوقف منذ ذلك الحين عن إيذاء بلادي ، سواء عبر الاعتداءات السيبرانية، أو الدسائس الإعلامية، أو محاولات التشويش، مع التركيز على إغراقنا بأطنان لا حصر لها من المخدرات…” هذا النظام ، لا يعيش اليوم إلا على أنفاسه الأخيرة: اقتصاد منهار، شعب منهك، نظام تتآكله الخلافات حول خلافة ملك مريض.
في الخلفية، يظهر صراع خفي بين ولي العهد، المدعوم من المستشار الصهيوني أندريه أزولاي وبعض الأجهزة الأمنية، وبين الأمير مولاي رشيد المدعوم من أخوات الملك ومن قطاعات من الشعب المغربي نفسه.
إنها مملكة تعيش ما قبل السقوط، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ومع ذلك، الجزائر لا تنجرّ. تقف شامخة، تترفع بعقيدتها وتاريخها عن مستنقع الجيران، وتُمارس أخلاق الدولة لا غرائز الرد.
بل إنها، في أسمى تعبير عن الإنسانية، مدت يد المساعدة للمغرب في زلزال العام الماضي، رغم كل الطعنات.
■الجزائر وإيران: العلاقات والدور
في سياق محاولة تشويه صورة الجزائر وربطها زيفًا بالإرهاب، يُعاد استحضار علاقتها مع إيران.
وهنا وجب التأكيد: ترتبط الجزائر بعلاقات طيبة مع إيران، كما هو الحال مع معظم دول العالم، وذلك على أساس الندية والاحترام المتبادل.
ولعل من لا يعرف، فإن الجزائر كانت الدولة الوحيدة التي نجحت في الوساطة لتحرير الرهائن الأمريكيين المحتجزين في طهران عام 1981، بفضل دبلوماسية نزيهة وعلاقات متوازنة مع الطرفين.
ومنذ ذلك التاريخ، حافظت الجزائر على تقليد دبلوماسي ثابت: الوساطة بدل الاصطفاف، السلام بدل التصعيد.
■ديبلوماسية مستقلة… ووساطة فعالة
برزت الجزائر، طيلة العقود الماضية، كفاعل دبلوماسي نشط وملتزم، يعمل من أجل السلام وتسوية النزاعات بطرق سلمية، لا بالصواريخ ولا بالصفقات. ومواقفها في المحافل الدولية، خصوصًا ضمن الأمم المتحدة، أثبتت التزامها بخط دبلوماسي لا يحيد.
تعتمد العقيدة الدبلوماسية الجزائرية على ثلاثة ركائز ثابتة:
1. عدم التدخل واحترام السيادة:
الجزائر لا تتدخل في شؤون الغير، ولا تقبل أن يُتدخل في شؤونها.
2. حق الشعوب في تقرير المصير: حق الشعوب في تقرير مصيرها: تُجسّد الجزائر هذا المبدأ من خلال دعمها الثابت للقضايا العادلة في العالم، واصطفافها مع المجتمع الدولي في السهر على تنفيذ قرارات ولوائح الأمم المتحدة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية.
وقد أكد السيد رئيس الجمهورية أن الجزائر تطالب بتطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، بما يضمن لكل شعب حرية الاختيار في تحديد مستقبله السياسي بكل سيادة ( له أن يختار مايشاء ).
3. الحوار والمصالحة كحل لكل النزاعات:
تستند الجزائر في ذلك إلى تجربتها في المصالحة الوطنية، التي تُقدم كنموذج ناجح لدول أخرى.
وبالاعتماد على هذه المبادئ، سجلت الجزائر نجاحات دبلوماسية فريدة:
أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران (1979–1981):
أنجحت الجزائر مفاوضات سرية قادت إلى الإفراج عن 52 رهينة أمريكية بعد 444 يومًا.
النزاع بين إثيوبيا وإريتريا:
لعبت الجزائر دورًا محوريًا أنهى حربًا دموية خلّفت أكثر من 70 ألف قتيل، بتوقيع اتفاق الجزائر في ديسمبر 2000.
الخلاف الحدودي بين العراق وإيران (اتفاق الجزائر 1975):
واحدة من أندر الوساطات الناجحة بين بلدين متنازعين تاريخيًا.
■حضور أممي فعّال ومبادرات مبدئية
حاليًا، تواصل الجزائر أداء دورها من داخل مجلس الأمن، بعد انتخابها عضوًا غير دائم للفترة 2024–2025، حيث حصلت على 184 صوتًا من أصل 193، في دليل على الثقة الدولية بها.
وقد جعلت الجزائر من القضية الفلسطينية أولوية، حيث قادت جهودًا لإصدار قرار بوقف إطلاق النار في غزة خلال رمضان 2024، وتعمل حاليًا على مشروع قرار إنساني جديد بشأن الوضع في القطاع.
وفي مبادرة فريدة، نجحت الجزائر في جعل يوم 16 ماي يومًا عالميًا للعيش معًا في سلام، وتشارك اليوم في مجموعة “أصدقاء السلام” التي تهدف لتسوية النزاع في أوكرانيا، ما يعكس تمسكها الدائم بمبادئ عدم الانحياز.
■من يرعى الإرهاب؟ من يحاكم؟
وحين يوجه البعض الاتهام للجزائر بـ”رعاية الإرهاب”، وجب أن نسأل: من هو المتهم أمام محكمة الجنايات الدولية؟ أليس هو بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة؟!
إن أكبر كذبة تُروّج اليوم هي اتهام الجزائر، وهي الدولة التي تحارب الإرهاب فكريًا، ميدانيًا، ودبلوماسيًا، بينما تُبرأ أنظمة تمارس الإرهاب كسياسة رسمية.
■الجزائر تقف حيث يجب أن تكون
فرضت الجزائر نفسها كفاعل رئيسي في دعم السلم العالمي، بحكمة الموقف، لا ضجيج القوة. وابتعدت عن الاصطفاف، وارتفعت عن الابتزاز، وتمسكت بخط لا يعرف التلون ولا الخنوع.
من أزمة الرهائن إلى معادلة السلام في إفريقيا، ومن دعم فلسطين إلى الوساطة بين المتخاصمين، تواصل الجزائر –بهذا الإرث وبتلك العقيدة– قول ما لا يجرؤ آخرون على قوله، وفعل ما لا يقدر عليه الكثيرون.
وفي زمنٍ تعلو فيه أصوات القنابل على صوت القانون، وتُمارس فيه الدبلوماسية بمنطق التهديد لا التفاهم، تبقى الجزائر تسير عكس التيار، بإرث الثورة لا بإملاءات الكواليس.
وكما قال الرئيس الأمريكي الراحل، المحبوب من الجزائريين، جون كينيدي:
“يجب على الإنسان أن يضع نهاية للحرب، قبل أن تضع الحرب نهاية للإنسان.”
الكاتب : رفيق شلغوم ، مؤسس ،ومدير صحيفة “الجزائر الآن” الالكترونية، وكاتب مقال “رأي” بعدد من الصحف العربية