الجزائرالٱن _ من النادر أن يتفق العالم على شيء، لكن هناك إجماع شبه كامل على أن الذكاء الاصطناعي يشكّل أكبر تحوّل عرفته البشرية منذ ظهور الإنترنت، وربما منذ الثورة الصناعية. التأثيرات بدأت تتسلل بهدوء، لكنها تتوسع بسرعة: في طريقة عيشنا، تعليمنا، عملنا، بل حتى في طريقة تفكير الدول وتسييرها لمؤسساتها.
ولهذا السبب، بدأت أصوات كثيرة، خاصة في الدول الكبرى، تنادي بضرورة وضع ضوابط واضحة لهذا التطور المتسارع، حتى لا يصل إلى مرحلة يهدد فيها وجود الإنسان نفسه. لكن رغم هذه الدعوات، لم يتم التوصل إلى إجماع، بسبب الخلافات العميقة بين القوى العالمية الكبرى.
في 2011، كتب مارك أندريسن، المستثمر المعروف، مقالة مشهورة في صحيفة “وول ستريت جورنال” قال فيها إن “البرمجيات تلتهم العالم”، وكان يقصد أن البرامج بدأت تعيد تشكيل كل القطاعات، من الإعلام إلى النقل. لكن بعد ست سنوات فقط، جاء جينسن هوانغ، مؤسس شركة “نفيديا”، وقال مقولته الشهيرة: “نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات”. المعنى هنا أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية، بل أصبح هو العقل المدبّر الجديد.
واليوم، في ظل هذا التطور السريع والضخم، يتساءل بعض الباحثين: هل يمكن أن يأتي وقت يُستغنى فيه عن الذكاء الاصطناعي نفسه؟ وهل هناك شيء يمكن أن يوجّهه كما وجّه هو البرمجيات؟ المفاجأة التي توصل إليها باحثان من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هي أن الجواب قد يكون الفلسفة.
عندما تفشل الخوارزميات، تتدخل الفلسفة لتصويب البوصلة
عادةً، عندما يُطرح مصطلح الفلسفة في سياق الذكاء الاصطناعي، يتبادر إلى الذهن النقاش الأخلاقي: هل هذه الأنظمة منحازة؟ هل تحترم الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، إلا أنها لا تمس جوهر الموضوع. فالفلسفة، ببساطة، ليست عنصرًا خارجياً يعلّق على ما يحدث، بل هي جزء أساسي من كيفية تصميم هذه الأنظمة وتوجيهها.
كل نموذج من نماذج الذكاء الاصطناعي يعتمد في الأساس على مجموعة من الافتراضات الفلسفية، حتى وإن لم تُذكر صراحة: ما الذي يُعد “معرفة”؟ ما الهدف من هذا النموذج؟ كيف يرى العالم؟ هذه أسئلة فلسفية من الطراز الثقيل، غيابها أو تجاهلها قد يؤدي إلى نتائج كارثية أو ساذجة. ولعل المثال الأشهر هو ما حدث مع نموذج “جيميناي” من شركة “قوقل”، الذي قدم صورًا مشوّهة للتاريخ في محاولة سطحية لإبراز التنوع، ما عرض الشركة لموجة انتقادات وسخرية. الخطأ هنا لم يكن تقنياً، بل فلسفياً: ما الغاية من الصور؟ الدقة التاريخية أم تمثيل التنوع؟ عندما تتضارب الغايات دون رؤية واضحة، تكون النتيجة فوضى.
اليوم، أصبحت الشركات التي تُدمج الفلسفة في صميم عملها أكثر قدرة على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، لأنها تمنحه “بوصلة” تحدد الوجهة. فلا فائدة من تكنولوجيا قوية إن كانت بلا هدف واضح. هذا ما أدركه رواد المجال الأوائل مثل آلان تورنغ، الذين انطلقوا من تساؤلات فلسفية، لا فقط من حسابات رياضية.
الفكرة إذًا ليست تعيين “فيلسوف مقيم” في الشركات، بل إدماج التفكير النقدي في فرق التطوير، لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي يشبه سيارة سباق بمحرك خارق لكن بدون مقود.
الذكاء الاصطناعي أداة قوية… لكن من يمنحه الحكمة؟
تجربة “أمازون” تعطينا نموذجًا واضحًا: حين قررت الشركة تصميم برنامج “برايم”، لم تكتف بمؤشرات كمية مثل عدد المشتريات، بل طرحت سؤالًا فلسفيًا: ماذا يعني أن يكون الزبون وفيًا؟ ومن هنا بُني البرنامج.
وبما أن الذكاء الاصطناعي سيتحول قريبًا من أداة تنفيذية إلى شريك معرفي، فإن الجيل القادم من هذه الأنظمة لن يكتفي بتوليد نصوص أو تصنيف صور، بل سيحتاج إلى فهم السياق، ووزن الأولويات، واتخاذ قرارات معقدة. وهذا لن يتحقق إلا إذا تمت تهيئة هذه الأنظمة بفلسفة معرفية تساعدها على معرفة حدود معرفتها، وإدراك علاقتها بالواقع، وفهم التوازن بين الأهداف المتضاربة.
وإذا كانت الشركات اليوم تتسابق في تطوير النماذج، فغدًا ستكون المنافسة على شيء آخر: من لديه نظام أكثر حكمة؟ لأن التقنيات ستصبح متاحة للجميع، لكن الميزة الحقيقية ستكمن في الإبداع البشري، والقدرة على إعادة طرح الأسئلة من زاوية مختلفة.
هكذا، لن يكون الذكاء الاصطناعي هو سبب التميّز، بل سيكون “الخشبة” التي يُختبر عليها تميّز الإنسان نفسه. وحينها، سيكون دور هذه الأنظمة هو التفكير معنا، لا بدلاً منا. ومع هذه الرؤية، تعود الفلسفة لتلعب دورها التاريخي في صناعة الحضارة، لا لتلتهم الذكاء الاصطناعي، بل لتروّضه وتمنحه بعدًا أعمق: بعد الحكمة.