آخر الأخبار

مساهمة بقلم الدكتور بريش عبد القادر: مناعة الدولة والمرونة الاستراتيجية: رهان الجزائر لتعزيز الأمن الشامل

شارك
مصدر الصورة
الكاتب: الدكتور بريش عبد القادر

الجزائرالٱن _ في هذا المقال التحليلي، يقدم الدكتور بريش عبد القادر رؤية استراتيجية حول مفهوم مناعة الدولة في السياق الجزائري، مركّزًا على أهمية التعبئة الشاملة بأبعادها الاقتصادية والمجتمعية، كركيزة لتعزيز الأمن القومي بمفهومه الشامل، في ظل تحولات دولية متسارعة وتحديات متنامية.

في زمن التحولات المتسارعة والتقلبات الجيوسياسية والجيو-اقتصادية، لم يعد معيار قوة الدول يُقاس فقط بحجم اقتصادها أو قدراتها العسكرية، بل بقدرتها على الصمود، والتكيّف، وتجديد نفسها في مواجهة الأزمات. وهنا تتقاطع مفاهيم استراتيجية محورية: مناعة الدولة، المرونة الاستراتيجية، والأمن الشامل.

تواجه الجزائر اليوم مرحلة حساسة تتطلب أكثر من مجرد إصلاحات قطاعية أو تدابير ظرفية. نحن في قلب نقاش وطني حول ضرورة التعبئة العامة، ليس فقط بالمعنى الأمني الكلاسيكي، بل بمفهوم أوسع يشمل التعبئة الاقتصادية والمجتمعية، لمجابهة التحديات الداخلية والخارجية، وتعزيز مقومات الأمن في شموليته: أمن غذائي، طاقوي، رقمي، مؤسساتي، واجتماعي.

التحولات الجارية في محيطنا القريب والبعيد تُحتّم علينا التحرك بمنطق استراتيجي:

– منطقة الساحل الإفريقي تشهد تقلبات جيوسياسية عميقة، تعيد تشكيل خرائط النفوذ والتهديد.

– السياق المتوسطي يتعقّد مع تصاعد التنافس الأوروبي–الروسي والصيني–الأمريكي على الموارد والأسواق.

– الاقتصاد العالمي يعرف موجات من التباطؤ، والركود التضخمي، وعودة السياسات الحمائية، ما يضع الاقتصادات الريعية في مرمى الخطر.

كل هذا يجعل من الضروري توسيع مفهوم الأمن، من الأمن في بعده العسكري إلى الأمن الشامل، وتحويله إلى منظومة متكاملة يكون فيها الاقتصاد رافعة، والمجتمع حصنًا، والدبلوماسية درعًا، والمؤسسات محركًا.

مناعة الدولة هي القدرة على الاستمرار السيادي رغم الأزمات، دون الارتهان للخارج . لكنها ليست حالة جاهزة، بل نتيجة نظرة استباقية و استراتيجية، تحتاج إلى مرونة عميقة على مستوى السياسات، والنخب، والمؤسسات.

في الاقتصاد:

لا بد من التوجّه نحو تعبئة اقتصادية وطنية، تتجاوز منطق “الريع” نحو منطق الإنتاج:

اقتصاد متنوع يستغل كل الموارد الاقتصادية المتنوعة التي تزخر بها بلادنا.

– استثمار ثرواتنا البديلة واستغلال الثروات المنجمية بما فيها المعادن النادرة.

– ترقية الفلاحة الاستراتيجية وتوطين الصناعات التحويلية.

– دعم المؤسسات الناشئة والاقتصاد الرقمي كرافعتين للسيادة.

في المجتمع:

التعبئة المجتمعية لا تعني فقط الوعي بالمخاطر، بل إشراك المواطن في صنع القرار والرقابة عليه، من خلال:

– تحسين الحوكمة المحلية،

– تقليص الفجوة بين الدولة والمواطن،

– تحفيز الشباب على المساهمة في بناء المستقبل، لا الاكتفاء بالمطالبة به.

في الأمن والدبلوماسية:

– الجيش الوطني الشعبي ركيزة أساسية للأمن القومي، لكن مناعة الدولة تتطلب أيضًا أمنًا غذائيًا، مائيًا، وصحيًا.

– دبلوماسيتنا مطالبة بالتحوّل من منطق الحذر إلى منطق المبادرة، خاصة في ملفات الساحل، الطاقة، والفضاء الإفريقي.

المرونة هي القدرة على امتصاص الصدمات، التكيّف معها، ثم العودة بشكل أقوى. ولا تبنى المرونة إلا عبر:

– سياسات عمومية استباقية، لا تفاعلية؛

– مؤسسات قادرة على التكيف دون أن تفقد شرعيتها أو فعاليتها؛

– وقيادات تنظر بعيدًا، وتحكم استنادًا إلى تحليل المخاطر لا مجرد إدارة يومية.

التعبئة العامة التي نتحدث عنها اليوم يجب أن تأخذ طابعًا استراتيجيًا شاملًا:

– تعبئة فكرية لتعزيز الوعي السيادي.

– تعبئة تعليمية لتجديد منظومة القيم والمعارف.

– تعبئة اقتصادية لتثمين الموارد وخلق القيمة المحلية.

– تعبئة مجتمعية لتحصين الوحدة الوطنية وتعزيز اللحمة الوطنية.

الجزائر قادرة على أن تقدم نموذجًا جديدًا للأمن الشامل، لا يقوم على منطق الردع فقط، بل على التنمية السيادية والعدالة الاجتماعية. نموذج يوازن بين الحزم والانفتاح، بين القوة والشرعية،

لكن هذا النموذج يحتاج إلى إرادة سياسية، تعبئة وطنية، وتخطيط استراتيجي. فلا يمكن بناء دولة منيعة، مرنة، وآمنة، دون رؤية متكاملة، يتقاطع فيها السياسي مع الاقتصادي، والاجتماعي مع الجغرافي، والمحلي مع الإقليمي.

ختامًا، إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط “حماية الجزائر من المخاطر”، بل جعلها قادرة على تحويل التهديدات إلى فرص، والحياد إلى ريادة، والموقع إلى قوة تأثير. وهذا ممكن، بل ضروري، إذا آمنّا أن السيادة تُبنى بالمرونة، والمناعة تُصنع بالثقة، والأمن الشامل بإنخراط الجميع من اجل استدامة مناعة الدولة وتعزيز سيادتها وتكون جزائر قوية سيدة منتصرة .

الدكتور بريش عبد القادر ،أستاذ جامعي وخبير اقتصادي ونائب بالمجلس الشعبي الوطني

شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا