الجزائرالٱن _ في 11 ماي 2025، أعلنت الجزائر رسميًا عن طرد عنصرين تابعين لجهاز المخابرات الداخلية الفرنسية (DGSI)، بعد محاولتهما الدخول إلى البلاد بجوازي سفر دبلوماسيين دون تصريح مسبق، في قرار جاء بعد أسابيع فقط من ترحيل 12 موظفًا قنصليًا فرنسيًا، بعضهم من سلك الأمن والدرك. هذا التحرك لا يُعتبر مجرد حادث دبلوماسي عابر، بل يمثل تحولًا عميقًا في طريقة الجزائر في التعامل مع الحضور الفرنسي على أراضيها، في خطوة قد تعكس سياسة جديدة في إعادة هيكلة العلاقات بين البلدين.
لم تقتصر الجزائر على طرد العنصرين فحسب، بل طالبت أيضًا جميع الموظفين الذين تم تعيينهم بطرق غير قانونية في التمثيليات الفرنسية بالعودة إلى بلادهم. هذه الإجراءات تأتي ضمن سياسة أوسع تهدف إلى تصفية شبكات الاختراق الأمني غير المشروع التي كانت تمارسها فرنسا عبر آلياتها الدبلوماسية، الأمنية، والثقافية. وبذلك، لم يعد يُنظر إلى هذا الإجراء كحادث دبلوماسي بل كخطوة منسجمة مع رؤية الجزائر في الحفاظ على سيادتها ومكافحة أي محاولات للتأثير الخارجي غير الشرعي.
لطالما اعتبرت فرنسا الجزائر ضمن مجال نفوذها المباشر منذ الاستقلال، واستخدمت آليات خفية للنفوذ عبر شبكات دبلوماسية وأمنية وثقافية. ولكن القرار الجزائري الأخير يعكس انتقال الجزائر إلى منطق السيادة الوقائية، حيث يتم رصد التهديدات في مهدها ومعالجتها قبل أن تتحول إلى وقائع مفروضة. هذا التصعيد يعكس التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تمر بها المنطقة، وخاصة تراجع نفوذ فرنسا في العديد من دول الساحل مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهو ما دفع الجزائر إلى مواجهة محاولات فرنسا لتعويض خسارتها الاستخباراتية في المنطقة.
التحرك الجزائري ليس مجرد رد فعل على تدخلات فرنسا، بل هو خطوة محسوبة ضمن استراتيجية شاملة لإعادة ضبط العلاقات الثنائية على قاعدة الندية والوضوح. الجزائر اليوم تضع حدا لأي مساحات رمادية قد تسمح لفرنسا بالمناورة، مؤكدًة على أن أي نشاط دبلوماسي أو أمني فرنسي يجب أن يتم عبر القنوات الرسمية ووفق الاتفاقيات الدولية، بعيدًا عن “أمر الواقع” الذي كان سائدًا في العقود الماضية. هذا التوجه يتماشى مع النهج الذي بدأته الجزائر منذ 2021 في استرجاع زمام المبادرة إقليميًا، سواء في ملف الأمن الداخلي أو في التمثيل الخارجي.
الإجراءات الجزائرية الأخيرة تأتي في وقت بالغ الأهمية على المستويين الإقليمي والدولي، في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة في شمال إفريقيا والساحل. الطرد المتكرر للموظفين الفرنسيين، سواء من جهاز المخابرات أو التمثيليات الدبلوماسية، ليس مجرد رد فعل على تدخلات باريس بل هو إعادة ترتيب للخيارات الاستراتيجية في منطقة مليئة بالتحديات الأمنية والاقتصادية. في هذا السياق، تسعى الجزائر إلى فرض نفسها كقوة إقليمية قادرة على مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، بعيدًا عن التدخلات الخارجية التي كانت تعتمد عليها فرنسا لعقود.
كما أن هذا القرار قد يفتح الطريق أمام الجزائر لتعزيز تحالفاتها بعيدا عن التأثير الفرنسي المتراجع كثيرا في المنطقة الإفريقية. وفيما يتعلق بالعلاقات مع المغرب، تواصل الجزائر فرض خطوط حمراء واضحة في قضايا الأمن الإقليمي مثل قضية الصحراء الغربية والتموضع العسكري في المنطقة.
إغلاق الباب أمام الحضور الفرنسي في الجزائر يعد أيضًا إشارة قوية ضد أي محاولات لتشكيل تحالفات بين باريس والرباط التي قد تحاول استغلال التوترات الإقليمية لصالحها.
في الختام، ترسم الجزائر بوضوح معالم سياستها الخارجية على قاعدة السيادة والتوازن الاستراتيجي، مواصلةً مسارها في تحدي الهيمنة الغربية، ومتجهة نحو بناء تحالفات إقليمية تضمن لها دورًا مؤثرًا في معادلة الأمن الإفريقي.