الجزائرالٱن _ أثارت الجريمة البشعة التي ارتُكبت في مسجد “خديجة” بمدينة “لا غران كومب”، جنوب فرنسا، موجة من الغضب والجدل القانوني والسياسي، بعدما قُتل المهاجر المالي أبو بكر سيسي، العامل المتطوع في تنظيف المسجد، على يد شاب فرنسي يُدعى أوليفيي، يبلغ من العمر 20 عامًا وينحدر من عائلة كبيرة تقيم في مدينة بيزيي.
وقعت الجريمة صبيحة 25 أفريل، عندما دخل أوليفي المسجد وادعى رغبته في التعرف على الصلاة الإسلامية، فاستجاب له الضحية، قبل أن يفاجأ به ينهال عليه بسكين حاد، موجّهًا له ما لا يقل عن 57 طعنة، أغلبها في الرقبة. لم يكتف الجاني بذلك، بل صوّر فعلته وبثها على منصة “إنستغرام”، قبل أن يفرّ إلى إيطاليا حيث سلّم نفسه لاحقًا للشرطة.
النيابة العامة: لا دافع إرهابي… والمحامون يردّون
رغم بشاعة الحادثة وتوقيتها ومكانها، سارعت النيابة العامة الفرنسية إلى استبعاد الطابع الإرهابي عنها، ورفضت تسليم الملف للنيابة المتخصصة بقضايا الإرهاب. المدعية العامة بمدينة نيم، سيسيل جنساك، قالت خلال مؤتمر صحافي إن المتهم لم يكن مدفوعًا بدافع أيديولوجي، بل ارتكب جريمته نتيجة “رغبة مهووسة بالقتل”، دون أن يحدد الضحية مسبقًا. واعتبرت أن ما جرى كان “فعلاً معزولاً”، لا علاقة له بأي تنظيم متطرف أو مشروع إرهابي.
لكن هذا التبرير قوبل برفض واسع، خاصة من طرف عائلة الضحية ومحاميها ياسين بوزروع ومراد بطيخ، اللذين أكدا عزمهما تقديم شكوى لإعادة توصيف الجريمة كـ”عمل إرهابي”. وأشارا إلى أن النيابة العامة استندت إلى توصيف أحادي من داخل وزارة الداخلية، متجاهلة السياق العام، ومحتوى الفيديو، والكلام المعادي للإسلام الذي أرفقه الجاني أثناء بث الجريمة.
وصرّح المحاميان لصحيفة «ليبراسيون» بأن “استبعاد فرضية الإرهاب في هجوم وقع داخل مسجد لا يمكن تفسيره إلا كفضيحة قضائية”، مطالبين بتحقيق قضائي مستقل يعيد تقييم الحادثة في ضوء ما جرى فعلاً، وليس من خلال فرضية غير مكتملة.
جدل في البرلمان واتهامات بازدواجية المعايير
تعمّق الجدل أكثر عندما امتد إلى البرلمان الفرنسي؛ إذ رفضت رئيسته، يائيل براون-بيفي، في البداية، طلبًا من كتل نيابية، بينها الاشتراكيون والشيوعيون والخضر، بالوقوف دقيقة صمت ترحمًا على الضحية، مبرّرة ذلك بكون البرلمان لا يكرّم الأفراد. غير أن الضغوط دفعتها لاحقًا إلى التراجع، فألقت كلمة تأبينية أكدت فيها التضامن مع أسرة سيسي والجالية المسلمة، داعية إلى تجنب استغلال المأساة سياسيًا.
ومع ذلك، رفض جيرار لارشي، رئيس مجلس الشيوخ، الاقتداء بهذه الخطوة، في مؤشر جديد على الانقسام السياسي حول الجريمة وطريقة التعامل معها.
تُوج هذا الانقسام بشعور متزايد في أوساط فرنسية عديدة، وخصوصًا في أوساط المسلمين والمهاجرين، بأن الدولة تمارس نوعًا من “ازدواجية المعايير” في التعاطي مع القضايا حسب هوية الضحية. فالداخلية لم ترسل وفدًا رسميًا فورًا إلى البلدة، ولم يزر الوزير برونو روتايو مكان الجريمة إلا بعد ثلاثة أيام، كما اختار التوجه إلى مدينة قريبة بدلًا من بلدة “غران كومب” نفسها.
ورغم إدانة الجريمة من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة، فإن هذا لم يكن كافيًا لطمأنة شريحة واسعة من المجتمع الفرنسي التي شعرت بأن حجم التنديد لا يرقى إلى مستوى الجريمة، ولو كان الضحية من غير المسلمين، لكانت ردود الفعل أوسع وأكثر حزمًا. وقد زاد الغضب الشعبي بسبب غياب أحزاب اليمين عن المظاهرة التي خرجت في باريس تنديدًا بالجريمة.
الجاني حذّر من نيّته القتل… وأجهزة الأمن لم تتحرك
وفي تطور يزيد من حرج السلطات، كشفت المدعية العامة أن القاتل سبق أن أطلق إشارات واضحة على منصات التواصل، تحدث فيها عن رغبته في القتل والانتحار، دون تحديد الضحية أو المكان. ووفق رواية النيابة، كتب أوليفي على منصة “ديسكورد”: “سأرتكب الجريمة اليوم… سأهاجم المسجد”، ثم ما لبث أن أعلن أمام مسجد “خديجة”: “إنه أسود… سأفعلها”، في إشارة إلى سيسي الذي اختاره ضحية.
الغريب أن أجهزة الأمن لم تتحرك رغم تلقيها بلاغات من اثنين من مستخدمي المنصة نفسها، واللذين تواصلا مع جهاز “فاروس” المخصص لمتابعة التهديدات الإلكترونية. هذا الإهمال يُطرح اليوم كقضية بحد ذاته، ويثير أسئلة حول فاعلية الرقابة الاستباقية على الأفراد ذوي الميول الإجرامية.
أما عائلة القاتل، فقد سارعت بدورها إلى الحديث عن معاناة ابنها من اضطرابات نفسية، حيث وصفه والده بأنه “مجنون 100%”، في محاولة واضحة لنزع الطابع الجنائي عن الفعل وتحويله إلى قضية مرض عقلي.
تشييع الضحية وسط مرارة كبرى
من المنتظر أن تُنقل جثة الضحية إلى مسجد باريس، ومنها إلى مالي حيث سيُوارى الثرى في قريته. لكن تداعيات الجريمة لن تُدفن معه، بل ستبقى حاضرة في النقاش العام، كونها أعادت طرح سؤال قديم: هل هناك مواطنون من الدرجة الثانية في فرنسا؟ ولماذا تختلف ردود الفعل حسب اسم الضحية ودينه ولون بشرته؟