آخر الأخبار

من صنصال إلى بورغا .. حرية التعبير على المقاس الفرنسي

شارك
بواسطة محمد،قادري
صحفي جزائري مختص في الشأن السياسي الوطني و الدولي .
مصدر الصورة
الكاتب: محمد،قادري

الجزائرالٱن _ في فرنسا، لا شيء يوحّد أجهزة الدولة ومؤسساتها الإعلامية والثقافية كما تفعل الازدواجية. إنّها جمهورية الشعار والخرق، الوطن الذي يتغنى صباحًا بـ”حرية التعبير” ويطاردها ليلًا إن خرجت عن نصه الرسمي. كيف يمكن لبلد يزعم أنّه مهد الفلسفة والتنوير أن يتحوّل إلى سجان للفكر حين يتجرأ على تحدي السردية الصهيونية أو التشكيك في أطروحات المؤسسة السياسية؟ من محاكمة المفكر فرانسوا بورغا إلى استجواب الصحافية في “تيلي راما”، إلى هبّتها الغريبة للدفاع عن بوعلام صنصال، تتكشف ملامح مسرح عبثي لا يليق سوى بنظام يحتضر أخلاقيًا.

المفكر الفرنسي المعروف فرانسوا بورغا، الذي كرّس حياته لفهم العالم العربي، لم يقترف ذنبًا سوى الدفاع عن الدقة في توصيف ما يحدث، ورفض الانسياق وراء موجة شيطنة المقاومة الفلسطينية. جريمته؟ نشر بيانًا ينفي الاتهامات الملفقة ضد حماس، وكتابة رأي يعتبره الادعاء الفرنسي تمجيدًا للإرهاب! مشهد يُسحب فيه باحث أكاديمي إلى المحاكم فقط لأنّه عبّر عن موقف لا يروق للأجهزة المتحالفة مع الصوت الصهيوني، هو فضيحة أخلاقية بكل المقاييس. بل الأخطر أن يُستخدم عمله العلمي، المنشور منذ سنوات بلغات عدة، كدليل إدانة! أي عبث قانوني هذا؟ وأي قاع جديد تسقط فيه الجمهورية الفرنسية باسم “مكافحة الإرهاب”؟

وفي حادثة موازية، لم يُتح لصحافية فرنسية حتى فرصة النشر، حتى وجدت نفسها في دهاليز التحقيق بتهمة القذف. جريمتها؟ التحضير لتحقيق صحفي يلامس شخصية نافذة في المشهد الثقافي الفرنسي. تحقيق لم يُنشر، لكن مجرد النية كانت كافية لتدشين حملة تخويف وتحقيق بوليسي لإرغامها على كشف مصادرها. هذا ليس مشهدًا من جمهورية موز، بل من باريس، حيث الشعار الرسمي “حرية، مساواة، إخاء”، والممارسة الرسمية: تكميم، انتقاء، خنوع.

ولكن، ما إن ننتقل إلى بوعلام صنصال، حتى تنقلب المفاهيم، وتتحول فرنسا إلى مدافع شرس عن حرية التعبير. الكاتب الذي لم يترك فرصة إلا وهاجم فيها بلاده الجزائر، وشكك في شرعية مقاومتها، وامتدح المشروع الصهيوني، صار بين ليلة وضحاها “ضميرًا حرًا” و”رمزًا لقيم التنوير”. نفس الدولة التي تسجن باحثًا أكاديميًا لأنّها لم تهضم رأيه في حماس، تطلق حملات دبلوماسية مطالبة بالإفراج عن رجل سقط أخلاقيًا وسياسيًا في مستنقع التطبيع والكراهية المبطنة.

إنّه الوجه الحقيقي للجمهورية الخامسة: حرية التعبير “حسب المقاس”. إن انتقدت الكيان الصهيوني، فأنت إرهابي. وإن مدحته، فأنت مفكر حر. إن دافعت عن فلسطين، فأنت تحرّض. وإن برّرت المجازر الصهيونية، فأنت تكتب من “منصة إنسانية”. تلك ليست ديمقراطية، بل ديماغوجية مقنّعة بربطة عنق حقوقية. ليست حرية، بل احتكار للرأي وتوزيع انتقائي لصفة “المفكر” وفق دفتر شروط أمني وسياسي لا يُعلَن.

فرنسا اليوم تعيد إنتاج استعمارها القديم، ولكن هذه المرة بأدوات إعلامية وأكاديمية. من صنصال إلى بورغا، يتضح أن الكلمة الحرة في باريس لا قيمة لها إن لم تكن مطابقة لمواصفات النفاق الغربي. فلتتوقف باريس عن إعطاء الدروس في الديمقراطية. ولتنظر إلى صورتها في مرآة القمع الذي تمارسه على من يخالف سرديتها، قبل أن تتحدث عن “حرية التعبير” في أي بلد آخر.

شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا