الجزائر الآن _ لم تكن الجزائر بحاجة إلى بذل جهد كبير لكشف زيف الخطاب الفرنسي، فالجمهورية التي تتغنّى بالمبادئ، وتزعم احترام الشركاء، تتخبط منذ أيام في سلسلة من التصريحات المرتبكة والمتناقضة، تُعرّي هشاشة القرار السياسي في باريس، وتُظهر حجم الارتباك أمام مواقف جزائرية ثابتة وذات سيادة .
كما أن هذه المعطيات تجعلنا نطرح السؤال التالي : هل تبادل أدوار في باريس خطة مدروسة و مبرمجة أو تخبط من طرف كبار الساسة الفرنسيين ؟
بارو من التهديد إلى “دعونا نتحاور “
يوم الثلاثاء، خرج وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو على قناة “فرانس 2” بوجه مكشّر، ليُهدّد الجزائر بردّ “صارم” بعد قرارها طرد 12 موظفًا من وزارة الداخلية الفرنسية يعملون بغطاء دبلوماسي، وهو القرار الذي جاء ردًا على توقيف موظف قنصلي جزائري بطريقة استعراضية مهينة في باريس و دون إحترام للقوانيين الدولية .
لم يكتف بارو بالتنديد، بل لوّح بأن الجزائر “ستخسر كثيرًا” إذا واصلت هذا المسار، رافضًا الاعتراف بأي خطأ من الجانب الفرنسي، ومدافعًا عن وزير الداخلية برونو روتايو ، وكأن لا مسؤولية سياسية تقع عليه .
لكن المفارقة جاءت بعد أقل من 24 ساعة، حين عاد نفس الوزير، الأربعاء، ليُغيّر النبرة كليًا عبر إذاعة “فرانس إنتر”، حيث تحدث عن “ضرورة الحوار” و”الخروج من التوتر”، وقال بلسان مغاير: “الحوار هو السبيل الوحيد”، بل وهاجم من يدعون إلى غير الحوار واصفًا إياهم بـ”غير المسؤولين “.
أيّ من بارو نُصدّق؟ بارو التهديد أم بارو الحوار؟ أم أن كلاهما وجهان لسياسة واحدة تُدار بارتجال وتخبط، وتفتقد لأي منطق دولة متزنة؟
وزير العدل… “المعتدل” الذي انقلب على مواقفه
وإذا كان وزير الخارجية قد أحرج فرنسا أمام الرأي العام بتذبذب تصريحاته، فإنّ زميله وزير العدل جيرالد دارمانان، فجّر قنبلة أخرى بتصريحات عنصرية وعدائية صريحة تجاه الجزائر .
ففي لقاء على قناة “أوروبا 1″، قال دارمانان إن “فرنسا لا يجب أن تعتذر عن ماضيها الاستعماري”، وإن على الجزائر أن “تتوقّف عن اجترار الماضي”، مشيرًا إلى أنّ ذلك “يعيق بناء علاقات جديدة”. ليس هذا فحسب، بل دعا علنًا إلى إلغاء اتفاقيتي 1968 و1994، وهما من ركائز التعاون بين البلدين في ملفي الهجرة والتعاون القضائي .
المثير في الأمر أن دارمانان نفسه كان قبل أشهر فقط يدعو إلى “الحوار مع الجزائر”، وهاجم زميله روتايو بسبب مواقف عدائية اعتبرها “مضرة بالعلاقات الثنائية”. فما الذي تغيّر؟ هل هي قناعات الوزير التي انقلبت؟ أم أن الحكومة الفرنسية بأكملها لا تملك موقفًا موحدًا، بل تدار بردود أفعال ظرفية بلا رؤية ولا مبدأ؟ أو هناك أمر آخر بحسابات أخرى ؟
ارتجال رسمي… لا استراتيجية ولا احترام
ما تكشفه هذه التصريحات المتضاربة، هو أنّ فرنسا اليوم لم تعد قادرة على التحدث بصوت واحد، ولا تملك سياسة خارجية رشيدة تجاه الجزائر وحتى ملفات أخرى . ما بين رئيس يقرّر التصعيد، ووزير خارجية يغيّر خطابه خلال 24 ساعة، ووزير عدل يلهب الأزمة بتصريحات استعمارية، تبدو باريس وكأنها تائهة بين الحنين إلى الماضي ورهبة الحاضر الذي تفرضه جزائر جديدة، قوية وذات سيادة .
في مقابل ذلك، تردّ الجزائر بهدوء وثبات، لا تنجرّ إلى المهاترات، ولا تستسلم للابتزاز، بل تفرض معادلة جديدة: الاحترام مقابل العلاقة، والسيادة مقابل الشراكة .
فرنسا لم تُخفِ يومًا عداءها، لكن ما لم تستوعبه بعد، هو أنّ الجزائر تغيّرت. أما باريس، فهي لا تزال تراوح مكانها، تتخبّط في مواقفها، وتفشل في فهم أّن زمن الإملاءات قد انتهى وأن اللغة الوحيدة التي تنفع البلدان هي لغة المصالح المتبادلة لا مصلحة بلد على حساب بلد آخر .