سلطت صحيفة Le Point الفرنسية في مقال لها، الأحد، الضوء على المدن التي شكلت عقبة كبرى أمام التوسع الفرنسي، مثل مدينة قسنطينة العتيدة، التي صمدت بشجاعة لسنوات، حتى قامت السلطات الفرنسية بإطلاق اسمها على عدة شوارع في باريس، جنبا إلى جنب مع أسماء أخرى مستوحاة من تاريخ الجزائر المستعمرة مثل “شارع الجزائر” وغيرها من الأسماء، لكن قسنطينة وحدها أطلقت على أكثر من شارع في باريس، نظرا للأثر العميق الذي تركته عند الفرنسيين إبان الفترة الاستعمارية، وكيف كانت عصية على اقتحام الجيوش في البداية قبل أن يتجند المستعمر بقوة لإسقاطها.
فلم تكن قسنطينة مجرد مدينة مستهدفة، بل كانت رمزا للعزة الجزائرية، حيث واجهت جيوش الاحتلال بصلابة جعلت سقوطها مهمة شبه مستحيلة في البداية. هذه المدينة التي تعود جذورها إلى العصور القديمة، ظلت صامدة في وجه الحملات العسكرية الفرنسية، ما جعلها أحد أقوى المعاقل الثورية التي دوخت الاستعمار.
في عام 1836، أطلق الفرنسيون بقيادة الجنرال كلوزيل أولى محاولاتهم لاحتلال قسنطينة، لكنهم اصطدموا بمقاومة شرسة بقيادة أحمد باي وأهل المدينة، مما أجبر القوات الفرنسية على التراجع بعد تكبدها خسائر جسيمة. فقد كانت المدينة محصنة طبيعيا، إذ تحيط بها الجبال والوديان العميقة، مما جعل اختراقها تحديا كبيرا للمستعمر ومهمة مستحيلة.
إلا أن فرنسا الاستعمارية لم تستسلم لهذه الهزيمة، فبعد عام واحد فقط، حشدت حملة عسكرية أضخم بقيادة الجنرال دامرومون، وجلبت آلاف الجنود المدججين بأحدث الأسلحة. ورغم أن دامرومون نفسه قتل خلال القتال، فإن القوات الفرنسية تمكنت من اقتحام المدينة في أكتوبر 1837 بعد معارك ضارية سقط خلالها آلاف الشهداء من أبناء قسنطينة. ورغم أن سقوط المدينة كان مؤلما، لكنه أبدا لم يكن نهاية المقاومة الجزائرية، بل كان شرارة ألهبت المزيد من الحركات الثورية في بقية البلاد.
شكل سقوط قسنطينة لحظة فارقة في المشروع الاستعماري الفرنسي ، حيث اعتبر احتلالها إنجازا يعزز نفوذ فرنسا في الجزائر. وتشرح صحيفة le point في مقالها أنه وبدافع الاحتفاء بهذا “الانتصار”، قامت السلطات الفرنسية بإطلاق اسم “قسنطينة” على عدة شوارع في باريس، جنبا إلى جنب مع أسماء أخرى مستوحاة من المستعمرات الفرنسية مثل “شارع الجزائر” و”شارع إيسلي”.
بحلول عام 1860، كان هناك أربع شوارع في باريس تحمل اسم قسنطينة، في خطوة تهدف إلى تخليد هذا الحدث داخل الذاكرة الفرنسية، وجعل السيطرة على الجزائر تبدو وكأنها حقيقة تاريخية ثابتة. لكن الحقيقة التي لم يدركها المستعمرون هي أن المدن قد تحتل، لكن روح المقاومة لا تموت، والجزائريون لا يعترفون بالسقوط أو الاستسلام.
مع تغير الأنظمة السياسية في فرنسا، بدأت محاولات لمحو بعض الرموز الاستعمارية من الفضاء العام. ففي عام 1867، تمت إعادة تسمية “شارع قسنطينة” في منطقة بلفيل بـ”شارع المارونيت”، تكريما للجالية اللبنانية. وفي عام 1880، أعيدت تسمية شارع قسنطينة في جزيرة إيل دو لا سيتي بـ”شارع لوتيس”، نسبة إلى الاسم الروماني القديم لباريس، في محاولة لإعادة التركيز على الهوية الفرنسية بعيدا عن رموز الماضي الاستعماري.
لكن مهما حاولت فرنسا إعادة صياغة تاريخها، فإن الحقيقة تظل واضحة وجلية وهي أن الجزائر لم تكن مجرد مستعمرة فرنسية، بل كانت وطنا قاوم طويلا ولم يرضخ للاستعمار ولم يعترف يوما بالهزيمة، ولذلك تجد المقاومة والثورة الجزائرية موجودة في مجلدات وكتب بين أكبر المكتبات في العالم وتدرس في أقوى الجامعات، تعلم الأجيال كيف استعادت الجزائر حريتها بصمود وبدماء ملايين الشهداء.
قد تسقط المدن تحت نيران الاحتلال، وقد تمحى أسماؤها من شوارع المستعمر، لكن ذاكرة الشعوب لا تمحى أبدا. وستظل قسنطينة أيقونة للمقاومة الجزائرية، وشاهدة على كفاح أمة رفضت الاستسلام. ورغم أن فرنسا غيرت أسماء بعض الشوارع، لكن الحقيقة التاريخية تبقى ثابتة وهي أن الجزائر لم تكن أرضا مستباحة، بل كانت دائما مقبرة للغزاة، وشعبها لم يرضخ، بل صنع مجده ببطولات أبنائه وأرواح شهدائه.