في لحظة تاريخية طال انتظارها، خرج الأسير الفلسطيني البطل نائل البرغوثي من خلف القضبان، ليطوي صفحة طويلة من الاعتقال امتدت لأكثر من 45 عامًا بمرارتها وقسوتها وصعوبة أيامها الحالكة. لم يكن نائل مجرد أسير، بل كان تجسيدا حيا للنضال الفلسطيني، ورمزا للصمود والإرادة التي لا تنكسر.
هكذا يخرج الأسير البطل نائل البرغوثي أو كما يلقب “أبو النور” من ظلمة 80 زنزانة نهشت بظلمتها وقساوتها ريعان شبابه طيلة 45 عاما من الأسر الصهيوني الغاشم، ليطوي صفحة طويلة من الاعتقال جعلته يكون بلا منازع أقدم أسير سياسي في العالم.
ولد نائل البرغوثي عام 1957 في بلدة كوبر شمال غرب رام الله، وعاش تحت قسوة الاحتلال منذ صغره. اعتُقل للمرة الأولى عام 1978، ومنذ ذلك الحين، عاش في 80 زنزانة، معظمها مظلمة، حيث قضى أكثر من 32 عاما من عمره دون أن يمشي تحت ضوء القمر. في هذه السنوات، لم يعرف نائل طعم الحرية، ولم يلمس يد طفل صغير، لم يقبل يد والدته وهو الابن البار، وظل يردد “السنة الجاي بَروّح وببوس إيد امّي وبَسلّم عليها”، توفيت الأم ولم يراها و توفى الأب ولم يحتضنه، وتوفى الخال، و توفى العم وسجن أخاه واستشهد ابن أخوه، والثاني نفّذ عملية ضد الاحتلال وحكم عليه بالمؤبد.
منذ أكثر من 32 عاما لم يشم نائل رائحة الورود التي يعشقها، لم يشرب شاي “بميرميّة خضرا”، لم يأكل “مسخّن” أو أقراص الزعتر، بل كان محروما ومحاطا بالجدران وحيدا، مع ذكرياته ومقتنياته البسيطة.
تعد تجربة نائل في السجن فريدة من نوعها، إذ عاش ست سنوات في عزلة تامة، واحتفظ ببطانية واحدة لمدة 15 عاما، وألبوم صور رافقه لمدة 25 عامًا. كان يشرب قهوة في “بكرج” ظل صديقه الدائم لـ17 عاما. في كل تلك السنوات، كان نائل يعبر عن قلقه للأسرى الآخرين، ويخفف عنهم، رغم معاناته الشديدة.
إرادة لا تكسر
عندما مثل نائل ورفاقه أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية كان الجميع ينتظر حكم المؤبد، وفي لحظة النطق بالحكم، وبينما كان المعتقلون يشعرون بالترقب، ظل البطل نائل هادئا حكيما، وكأن الأمر لا يعنيه، حتى صدر الحكم.
وبدلًا من أن يكون الحكم لحظة انكسار ودموع، تحول إلى ثورة جديدة، وتعالت الصيحات على صوت واحد داخل القاعة: “ما بنتحول ما بنتحول يا وطني المحتل، هذا طريقنا واخترناها وعرة وبنتحمل”. وفيما كانت قوات الاحتلال تسحبهم نحو السجن، كانت والدتهم تهتف من بعيد: “ع السبع يا سبع”.
وحتى في أصعب اللحظات، كان نائل البرغوثي يبرز إرادته القوية. في سجن إيشل، أشار إلى الباب الحديدي الذي شهد تغييراته مرتين بسبب التلف، وقال: “لكن معنوياتنا لم تتلف مثل هذا الباب”. هذه الكلمات تعكس روحه القتالية، وإيمانه العميق بالحرية والصمود، رغم كل ما عاناه.
لم يستسلم نائل البرغوثي لواقع الاعتقال القاسي، بل أصبح رمزا للنضال المستمر داخل الحركة الأسيرة الفلسطينية. منذ عام 1977، شارك في جميع الإضرابات الجماعية التي خاضها الأسرى، وكان من أبرز القادة الذين دفعوا نحو تحسين ظروف الحياة داخل المعتقلات، متحديا سياسات العزل والتنكيل.
كما لعب نائل دورا رياديًا في العمل التنظيمي داخل السجون، حيث بدأ مسيرته في حركة “فتح”، لكنه عارض بشجاعة مسار التسوية الذي اختارته قيادتها، خاصة بعد خروج المقاومة من بيروت في عام 1982 ودخول المفاوضات مع الاحتلال. نتيجة لمواقفه الثابتة، انتقل إلى حركة “فتح الانتفاضة”، التي أسسها المنشق الفتحاوي أبو موسى، لكن هذا لم يكن نهاية رحلته. بل انضم لاحقا إلى حركة “حماس”، حيث أصبح من أبرز الكوادر داخل السجون، وانتخب في عدة دورات كعضو في مجلس الشورى العام للحركة، ليظل صوتا قويا يعبر عن آمال وتطلعات الأسرى في حرية الوطن.
عندما تم الإفراج عن نائل ضمن صفقة تبادل الأسرى، كانت لحظة الخروج بمثابة ولادة جديدة. لكن فرحته لم تكتمل، إذ فرض الاحتلال عليه الإبعاد عن قريته كوبر. هذه الخطوة كانت صدمة له ولعائلته، لكنها لم تضعف إرادته. حيث قال نائل: “لا للإبعاد، نعم للحرية في أرضي وبين أهلي”.
قصة نائل البرغوثي ليست مجرد حكاية أسير، بل هي تجسيد لأمل الفلسطينيين في التحرر. هي شهادة على أن الاحتلال، رغم جبروته، لا يستطيع كسر إرادة الأسرى الفلسطينيين. ويمثل نائل البرغوثي جيلين من الفلسطينيين، جيل ولد وهو في الأسر، وجيل كبر على سماع اسمه كأحد أعمدة النضال.
نائل البرغوثي، وبرغم سنوات المعاناة الطويلة، يبقى رمزا للصمود والانتصار. ويثبت أن الزمن ليس في صالح الظالمين، بل في صالح من يؤمن بعدالة قضيته. وعودته إلى الحرية، حتى وإن كانت مؤقتة، هي دلالة على أن الأمل سيبقى حيا، وأن الحرية قادمة لا محالة.
@ آلاء عمري