مثلما أنجبت الجزائر أبناء بارين تميزوا بحب الوطن وإخلاصهم لقضاياه، أنجبت في المقابل عاقين متمردين على القيم الوطنية، مثل كمال داود.
الكاتب الذي اختار مسارا مختلفا جعله يبدو كأداة في يد فرنسا الحاقدة على الجزائر، وبدلا من أن يكون صوتا حقيقيا للشعب الجزائري، اختار أن يكون بوقا من أجل عيون فرنسا.
يحاول داود في مقالات عدة عبر مختلف الصحف الفرنسية التي تعانق كتاباته الساخطة على الجزائر بكل حب وفرح، لا سيما صحيفة “Le Point”، أن يتناغم مع النخبة الفرنسية، ويظهر نفسه ذلك الفارس المستبسل والمستعد لتقديم نفسه فداءا لحبيبته الشمطاء، مما يثير تساؤلات خطيرة حول ولائه للقضية الجزائرية التي يدعي أيضا انه يحملها على عاتقه كواحدة من هموم الغربة.
فإذا كان المثقف يفترض أن يكون حارسا للحقيقة وصوتا للمعاناة الإنسانية، فإن داود يبدو وكأنه يتحول إلى مجرد صدى للأفكار الاستعمارية القديمة التي تحاول أن تتجدد وتتمدد، لكن هيهات أن تعثر لها عن مساحة كافية، مع مجال الجزائر المحدود الذي لا يسع الا ابناء الوطن البارين.
وبينما يدعي داود أنه يتحدث باسم المهمشين، فإن خطابه يفتقر إلى العمق والصدق. ففي حين يدعو إلى “التحول من الصمت إلى الكلام”، وحرية التعبير، يتجاهل أن هذا الكلام قد يتحول إلى صدى للأفكار التي تروجها النخبة الغربية الحاقدة على القيم الجزائرية، ومحاولا تقديم نفسه على أنه ترجمان لآلام الشعب الجزائري، لكنه في الحقيقة مجرد واجهة لأجندات خارجية تسعى لاستغلال ظروف الجزائر، وتصطاد في المياه العكرة، صيدا مسموما يقطع أمعاءها .
إن الانتقادات التي يواجهها داود من قبل العديد من المثقفين الجزائريين ليست مجرد آراء فردية. بل هي تعبير عن قلق عميق بشأن الهوية الوطنية. إذ أن انخراطه في خطاب يبدو ذو نبرة استعمارية يعكس تراجعا سفيها عن القيم الوطنية، لقد كان كمال داود واضحا، بل مفضوحا في مقالاته لمحاولته تبرير ما تخطط له فرنسا ضد الجزائر.
وفرنسا، رغم مرور عقود على الاستقلال، لا تزال تحاول بالإستعانة بمثل داود وصنصال وأقرانهما أن تكون حاضرة وسط الأفكار والسياسات في الجزائر.
وفي ضوء هذا الطرح، يصبح خطاب داود، الذي قد يعتبر مبررا للسياسات الفرنسية، مدعاة للقلق، لا سيما أنه يقدم خدمة للذين يسعون إلى إعادة تشكيل الهوية الجزائرية وفقا لمصالحهم الخاصة.
مثله مثل بوعلام صنصال، الذي يكمل سواد الصورة القاتمة، حيث يعكس موقفه من القضية الجزائرية رؤية استعمارية مماثلة، بدلا من مواجهة التاريخ بصراحة، يختار تقديم صورة مشوهة عن الهوية الوطنية، مما يؤدي إلى تعزيز الانقسام بين الأجيال الجديدة.
إن هذا النوع من الخطاب لا يخدم الشعب الجزائري في شيئ، بل يسهم في تفكيك الهوية الثقافية للجزائر ويزيد اللحمة لأعداءها المتربصين بها.
وفي خضم هذه الأزمات الفكرية، يجب أن نتساءل: هل نحن بحاجة إلى كمال داود وصنصال كمنبرين للحديث عن الجزائر؟ أم أن هناك أصواتا أخرى أكثر صدقا ومصداقية وموضوعية تعكس معاناة شعبنا؟
إن المثقف ينبغي أن يكون مدافعا عن الهوية والثقافة الوطنية، مثلما كان الرمز الرائع الخالد وفيلسوف النهضة والحضارة، “مالك ابن نبي”، الذي كان يعي قوة الكلمة وما يمكن أن تصنعه بتأثيرها السحري في الانفس، ومقتنع تمام الاقتناع أن من يحمل هموم الجزائر، يجب ان يكون من أصحاب الهمة والذمة العالية وغير قابل لأي مساومات على الوطنية، فالكلمة لها وقع كبير في تغيير مسارات الرأي، و المثقف الحقيقي صاحب الوطنية العالية، في رأيه الصائب هو الذي يؤثر في مجتمعه تأثيرا إيجابيا فعالا، ويتحرك نحو الإبداع و الحقيقة، لا نحو تزييف الحقائق وتصيد الزلات التي لا تخدم وطنه، فنحن كلنا مجبرون على اتباع نهج الحركة في حياتنا لخدمة أنفسنا وغيرنا وقد صدق مالك ابن نبي حين قال: إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن، سكن المجتمع والتاريخ أيضا.
هكذا كان مالك ابن نبي رجل مواقف وصاحب وطنية عالية وفكر ناضج قابل للعيش في أي زمان ومكان، ولم يكن كمثقفي فرنسا أداة في يد القوى الاستعمارية الجديدة.
وإذا كان داود وأمثاله يعتقدون بأنهم يقدمون خدمة للتاريخ بما يفعلونه، فإن تاريخ الجزائر لا يمكن أن يروى ويرى عبر عدسة نخبة كتاب فرنسا، فكان دائما يروى من لدن الذين عاشوا هموم الوطن بصدق، وهم أولئك الذين يمثلون صوت الشعب الحقيقي.
إن كمال داود، بكتاباته المثيرة للجدل، يسير في طريق خطر. إذ يبدو أنه يفضل الانخراط في حوار مع النخبة الغربية، بدلا من التوجه إلى جذور مشكلات بلاده.
هذا التحول يطرح تساؤلات عميقة حول دوره كمثقف، ويجعله عرضة للانتقادات الحادة. فإذا كان حقا يسعى لتحسين واقع الشعب الجزائري، فعليه أن يكون أكثر حرصا في اختياراته الفكرية وأن يبتعد عن الانغماس في الخطاب الاستعماري الذي يعزز الفجوة بين الأجيال ويضعف الهوية الوطنية.