الجزائرالٱن _ أكتب هذه السطور وفي ذهني، ونحن نعيش المأساة بكل جوانحنا، تعبير عربي عن الليلة الظلماء.
ففي هذا الأسبوع تحل الذكرى السادسة والأربعون لوفاة الرئيس الجزائري هواري بو مدين، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى في 27 ديسمبر عام 1978 إثر حالة مرضية صاعقة أعتقد أنها لم تكن مرضا طبيعيا، خصوصا بعد أن تأكد حجم العداء ضده ممن لم يحملوا لأمتنا يوما لمحة حب أو حتى عنصر وفاء.
وُلد محمد إبراهيم بو خروبة، وهو اسمه الحقيقي، في ولاية “قالمة”، واختار لنفسه، عندما التحق بجيش التحرير الوطني في منتصف الخمسينيات، اسما رمزيا مزدوجا كان هو الأسلوب الذي يلجأ له الثوار للتعتيم في مواجهة مخابرات عدوّ شرس كان يلجأ إلى الانتقام الإجرامي من عائلات الثوار.
ووقع اختيار الشاب النحيف الأشقر حافظ القرءان عاشق العربية ملتهب الوطنية، ابن معهد “الكتانية” الجزائري والأزهر المصري، على اسم مزدوج يضم اسمين، كان أولهما اسم “الهواري”، الوليّ المعروف في منطقة الغرب الجزائري، وذلك بهدف التعتيم سالف الذكر، حيث أن المجاهد الجزائري كان من منطقة الشرق الجزائري، بالإضافة إلى أن التخلص من الاسم يلغي إغراءات النرجسية والغرور.
وكان الاسم الثاني هو “بومدين”، نسبة لبومدين الغوث، المجاهد الجزائري رفيق صلاح الدين الأيوبي، الذي بترت يده في الحرب الصليبية ودفنت عند جدار القدس في منطقة قريبة من الحي الذي وهبه صلاح الدين للمرابطين من مجاهدي المغرب العربي، وهو ما كان يُسمّى حارة المغاربة، وهي الصفة التي كانت تُطلق في المشرق العربي على من ينتسبون للشمال الإفريقي من الحدود الليبية إلى الأطلسي.
ولم يكن بو مدين من قادة ثورة أول نوفمبر الأوائل من أمثال أحمد بن بله وعلي مهساس ومحمد بو ضياف وحسين آيت أحمد، لكنه استطاع أن يصعد سلم القيادة بفضل تفوقه في تحمل المسؤوليات التي عَهد بها إليه قادة الولاية الثورية الخامسة وخصوصا عبد الحفيظ بو صوف، وبحيث وصل في سنوات قليلة إلى منصب رئيس أركان جيش التحرير الوطني، وسلمت له بذلك شخصيات تاريخية كان لها فضلها في قيادة أعظم ثورة عربية شعبية في التاريخ المعاصر، حققت وحدة سياسية عربية هي اليوم ماضٍ يحلم بعودته كثيرون.
ولا يتسع المجال لاستعراض حياة الرجل، الذي كان من بين من قدّروا كفاءته العدوّ التاريخي للثورة الجزائرية، الرئيس الفرنسي شارل دوغول.
كان الجنرال أول من اكتشف حماقة المستوطنين الفرنسيين في الجزائر بإصرارهم على التمسك بخرافة “الجزائر الفرنسية”، وقال عنهم إنهم لم يدركوا، كما جاء في الجزء الرابع من مذكراته، أن جزائر “بابا”، حسب تعبيره (L’Algérie du Papa) قد ذهبت إلى الأبد.
في هذا الإطار، يروي الصحفي الفرنسي المصري بول بالطا، وهو من أهم من تناولوا قضايا الثورة الجزائرية، حكاية هامة عن الرئيس الفرنسي في نهاية الستينيات، عندما أصبح استقلال الجزائر قدرا لا مردّ له ولا مهرب منه، بفضل تزايد عنفوان الثورة وقوة الدعم العربي وتزايد التعاطف الدولي وتمكن الثورة من تحييد الشارع الفرنسي واكتساب تعاطف المثقفين الفرنسيين وعلى رأسهم “جان بول سارتر”.
ويروي بالطا أن الجنرال طلب من مخابراته إعداد قائمة بأسماء القيادات الجزائرية، تحمل ملاحظات المخابرات على توجهات تلك القيادات وتقييمها لكل منهم، وذلك بهدف تحديد أسلوب التعامل المستقبلي معهم.
وأعدت المخابرات القائمة وكان من بينها اسم هواري بو مدين، وكانت الملاحظة التي وُضِعتْ أمام اسمه أنه “ضابط غامض لا مستقبل له”.
ويشطب الرئيس الفرنسي الملاحظة، كما روى بالطا، ويكتب بخط يده ما معناه: تقييم خاطئ وحكم غير سليم.
وتساءل كثيرون عن السبب الذي جعل دوغول يصل إلى هذا الاستنتاج، خصوصا أولئك الذين لا يعرفون تصرفه إثر تحرير فرنسا، وتعامله مع محاولة روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت القوة العسكرية الرئيسة في التحرير، خلق واقع ميداني تكون لها فيه وبفضله المقدرة على التحكم في مسار الجمهورية الفرنسية المستقبلي، ووصل الأمر إلى حد إعداد عملة خاصة للأرض الفرنسية المحررة من الألمان.
وكان ذلك ما استرشد به الرئيس الفرنسي عندما اضطر في نهاية الخمسينيات إلى التخلص من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا ليتفرغ للقضاء على ثورة الجزائر، فعمل على أن تكون جيوش المستقبل في الدول المستقلة حديثا هي استمرارا للقوات العسكرية التي كانت ترفع العلم الفرنسي، والتي تكوّن قادتها طبقا للنهج الفكري الفرنسي وألفت جموعها الوقوف تحية للعلم الفرنسي، وأصبحت مهمتها حماية القيادات السياسية التي تحقق الإرادة الفرنسية في السيطرة على مستقبل بلادٍ، ستكون مشغولة بترديد أناشيد الاستقلال ومظاهر الفرحة بالعلم الوطني الجديد، ولكنها ستكون فريسة لاستعمار جديد.
آنذاك كان رئيس الأركان الجزائري ينطلق بإدراك عميق لكلمات المجاهد الكبير يوسف زيغود، قائد هجمات الشمال القسنطيني العظيمة، الذي قال بكلمات بالغة البساطة إن الاستقلال قادم لا محالة، وراح العقيد هواري بو مدين بالتالي يستعد لليوم العظيم الذي يرتفع فيه علم النجمة والهلال على الأرض الجزائرية مكان العلم ثلاثي الألوان.
وراح دوغول، وهوَ من هُوَ، يرقب بكل اهتمام العمل الذي يقوم به بو مدين في الخطوط الخلفية للثورة الجزائرية، بإعداد جيش نظامي يكون العمود الفقري للدولة الجزائرية المستعادة، واستبعاد “القوات المحلية” التي كان المستعمر قد بدأ في تكوينها من العناصر التي لم تلتحق بالثورة، بل ومن تلك التي ناصبتها العداء.
وهكذا يكون جيش الجزائر المستقلة جيشا وطنيا لا علاقة له بالتشكيلات المسلحة التي أعدها الاستعمار الفرنسي، وهو السرّ في استعمال تعبير “سليل جيش التحرير الوطني ” في الإشارة للجيش الوطني الجزائري.
وأدرك الجنرال الفرنسي أن رئيس الأركان الجزائري، الغامض الذي لا يعرف أحدٌ نواياه، قد درس التجربة الفرنسية بعد تحرير “السداسية” (HEXAGONE) كما يُطلق على بلاد “الجن والملائكة”.
والواقع هو أن أهم ما كان يتميز به الرئيس الجزائري هو النظرة البعيدة التي تستلهم تجارب الماضي لتستشرف المستقبل، ورجال الحركات التحريرية في العلم لا ينسون إدانته الواضحة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أبريل 1974 للنظام العالمي مطالبا بضرورة تغيير نظام “أُنشِئ في غيبتنا”.
ولن أزعج القارئ باستعراض ما يعرفه عن المواقف السياسية الوطنية والإقليمية والدولية للرئيس الجزائري، مكتفيا برواية قصة عشتها شخصيا معه، وترسم نظرته للأمور.
ففي الستينيات، وقبل أن يسعدني القدر بالعمل إلى جانبه، وكأي طبيب شاب مبتدئ معجب ببعض “البِدع” الإعلامية التي أغرقنا بها الغرب، كنت كتبت مقالا في صحيفة جزائرية أنادي فيه بتحديد النسل، حماية للتنمية الوطنية من الانفجار الديموغرافي.
وذات يوم في السبعينات، وكنت أصبحت مستشارا إعلاميا في رئاسة الجمهورية، فاجأني وأنا أجلس أمامه بقوله إنه قرأ مقالي وهو يرى أنني مخطئ 100/100، وفسّر لي ذلك بقوله إن هناك فرقا كبيرا بين تنظيم النسل، الذي يحققه التعليم، وتعليم المرأة بوجه خاص، وبين تحديد النسل الذي يُفرض بقوة السلطة ليصبح قاعدة عامة، خطورتها تكون في مستقبل غير بعيد، عندما يشيب الجيل ويصبح تشجيع المواطن على زيادة النسل أكثر صعوبة من حَضّه اليوم على تحديده.
وإذا كنتُ أعترف بأنني اقتنعت آنذاك بنظرته الإستراتيجية، فلعلي اليوم أجرؤ على القول بأن تحديد النسل كان يمكن أن يُنقذنا من كثرة كغُثاء السيل.
وهذه وقفة سريعة في هذا الزمن الرديء الذي تشتاق فيه الأمة إلى رجال يخرجون بها من وضعية الدياثة السياسية والخور الوطني والميوعة الجماهيرية، لنعود، كما كنا نأمل في مرحلة شباب، أعرف أنه لن يعود،خير أمة أُخرجت للناس.